الجمعة، 23 ديسمبر 2011

عددنا كتير - نجلاء بدير

جريدة التحرير - 23/12/2011

مسيرة البنات ردت فىَّ الروح. لم تفاجئنى الأعداد، كنت أتوقع أكثر.. لأننى أعرف بناتى.

فاجأنى احتياجى الشخصى لأن أكون وسط المسيرة.

كنت فى صباح نفس اليوم أسير فى طرقة قصر العينى أسأل نفسى، (هى الناس اتبلدت ولّا اتعودت ولّا اتجننت؟ولّا هو غاز محمد محمود أثر على عقولهم).

فى زيارة سريعة لقسم 5 رأيت مصابا (أصبح الآن شهيدا) اسمه سامح، كان وقتها يحتضر، أصيب يوم الجمعة بطلق نارى اخترق الوريد الأجوف السفلى، وهو الوريد الأكبر فى الجسم، فقد ساح دمه كله تقريبا، دخل غرفة العمليات أربع مرات، فى كل مرة يحاول الأطباء محاولة جديدة لإيقاف النزيف. ثم انتهى الأمر باليأس الكامل إلا من رحمة الله.

لسامح ثمانية إخوة فلاحين متعلمين، يعملون معا فى مشروعات ريفية، مرتبطين بأرضهم وبيوتهم وبلدتهم شبين القناطر، يمد أخو سامح يده لى ويقول «بصى إيدى.. أنا باشتغل بيها، عمرنا ما أخدنا من الحكومة دى حاجة ولا عايزين منها حاجة، أنا عايز أخويا يخف ويعيش بس».

أعود للسير فى الطرقة وأعود لأسأل نفسى (هى الناس كلها أصبحت طبقية، بمعنى أن الناس كلها بتهتم بالأغنياء)، أهل سامح ليسوا فقراء بمقاييس بلدتهم (بس الناس بتهتم بأهل المدينة والقاهرة تحديدا).

بعد أحداث ماسبيرو تأكدت أن أغلب الناس طائفيون فى أعماقهم، لأنهم لم يعترضوا على دهس وقتل المسيحيين بالدرجة المتوقعة.

بعد نزول الناس بالآلاف إلى الميدان فى اليوم الثالث لمذبحة محمد محمود عدت لأراجع نفسى، وأطمئن.

بعد مهزلة مجلس الوزراء اكتشفت أنه حتى أغلب الفقراء طبقيون، حتى أغلب الفقراء يحتقرون أنفسهم.

كانت البنات يهتفن من حولى «بنات مصر خط أحمر» فتمر أمام عينى صور الشباب الجميل الذى يرقد فى المستشفيات بين الحياة والموت. فأبكى بدلا من أن أردد الهتاف.

أريد أن أعدل الهتاف إلى «شباب مصر أولاد وبنات خط أحمر» حتى لا نتورط فى تمييز جديد. لكن حتى الشباب -الذين كلفوا أنفسهم بصنع كردون حول المسيرة لحمايتها- كانوا يهتفون «بنات مصر…».

عندما وصلت المسيرة إلى خط النار فى شارع قصر العينى، كان الضرب متوقفا، لكن كانت الأنوار مطفأة والشارع مظلما. أحكم الشباب كردونهم حول البنات فى مشهد للأسف حال الظلام دون تصويره، اخترق أحد الأطفال الكردون ودخل يرقص وسط البنات فارتفع صوت «إلحق العيال هيدخلوا» واندفع أحد الشباب حاملا الطفل بعيدا عن البنات.

جلست على الرصيف مع صديقات نستريح فتقدم منا شاب لم نرَ ملامحه فى الظلام قال «أنا عايز أشكركو أنكم جيتوا لأنكم كده بتثبتوا إننا مش بلطجية، مافيش بلطجية بيموتوا علشان بلدهم، لأ أنا عايز أحييكم».

إنهم يموتون من أجلنا ويشكروننا لمجرد قدومنا إلى مكان قريب منهم.

مسيرة البنات ردت فىَّ الروح.

لأننى كنت فى أمس الحاجة إلى الشعور بأننا (لسه عددنا كبير).

عند سلم النقابة رأيت عددا لم أره فى حياتى أمام نقابة الصحفيين شبابا وكبارا، بنات وأولادا.. يقولون «الجدع جدع والجبان جبان.. وإحنا يا جدع راجعين ع الميدان».

فى نفس الليلة مات سامح، 26 سنة، وأصبح شهيدا. وفى نفس الليلة كان محمد مصطفى يقاوم الموت، كان يفتح عيناه فيفجر طاقات أمل لدى أطبائه، فيتناقشون ويقررون ويحاولون، مزيد من الدم الساخن ينقلونه من أجساد أصحابه إلى جسده، ومزيد من الأدوية لجعل الدم يستقر فى جسده، لكن الدم يخرج مرة بعد مرة، فيلوح اليأس، فيفتح محمد عينيه ينظر إليهم دون أن يتكلم فيفهمون أنه ما زال يقاوم الموت فيحاولون.

سأذهب بعد كتابة هذه السطور لحضور جنازة الشهيد محمد مصطفى، 20 سنة، رغم أنه ما زال حيا، لأتأكد أنه لسه عددنا كتير.

http://tahrirnews.com/مقالات/عددنا-كتير/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق