الخميس، 15 ديسمبر 2011

الأفندية والغلابة - محمد المنسي قنديل

منذ سنوات قليلة، ماتت والدتى، رحمها الله ورحم كل أمهاتنا، فقد عانت كثيرا من المرض، وقضت ليلة أخيرة مليئة بالعذابات، وخرجت روحها فى هدوء مع مقدم الصباح. إنه أمر مريع أن تجد نفسك وحيدا فى العالم دون المخلوقة الوحيدة التى تكن لك حبا حقيقيا لا ينضب، جلست أنا وإخوتى قليلا تحت وقع الصدمة، ولكن كان يجب أن نفيق ونبدأ استعدادات الجنازة ونتصل بالأهل والأقارب، وكانت أولى المهام هو أن أستخرج شهادة الوفاة، ولأن المدينة التى نشأت فيها كانت قد تغيرت كثيرا وأصبحت أكثر عشوائية، فقدت استعنت بأقدم صديق لى فيها هو الدكتور عزت السمان الذى كان زميلى فى الكلية، وبفضله استغرق استخراج الشهادة وقتا قليلا، وسعيت بعد ذلك لشراء الكفن اللازم، ولكن عندما عدت إلى البيت، وجدت أشخاصا كثيرين لا أعرفهم، بينهم أكثر من امرأة منقبة، جاؤوا جميعا للقيام بإجراءات الغسل والتكفين، ومعهم كل الأشياء الضرورية، طبقات الكفن، وصابون الغسل، والعطور ومسحوق الشيح، شرعوا على الفور فى العمل دون أى تدخل من جانبنا، وعندما سألت أخيرا عنهم عرفت أنهم أعضاء جمعية إسلامية خيرية مهمتها تكريم الموتى، وهى تفعل ذلك بالمجان، وكل الذين يؤدون هذه المهمة الثقيلة متطوعون ومتطوعات، لا أعرف من الذى اتصل بهم، ولا كيف استجابوا بهذه السرعة، ولا كيف يعملون بهذه الكفاءة، النساء كن يقمن بعملية الغسل والدعاء على رأس الميت، والبعض الآخر كان يجلس بيننا يقرأ القرآن ويقوم بالتعزية والتسرية عنا، بل إنهم قدموا لى استمارة أكتب فيها إن كنت راضيا عن الخدمة أم لا، تحدثت مع المشرف عليهم، طالبا منه أن أدفع على الأقل ثمن المواد التى أحضروها، ولكنه هز رأسه رافضا، فهو لا يتلقى أى النقود، ولكن إذا كنت مصرا يمكننى أن أذهب إلى مقر الجمعية وأتبرع لهم هناك، وقد حدث هذا بالفعل بعد أن انتهت أيام العزاء، وكان من الصعب أن أصل إلى مكتبهم وسط الأحياء العشوائية والحوارى المتداخلة، ولكنهم كانوا بالفعل هناك وسط جموع الفقراء الذين تحفل بهم مدينتى، يقدمون خدماتهم اليومية.

ومدينتى مثل حال معظم المدن المصرية بالغة التعاسة، لا يوجد فيها إلا شارع أو شارعان على الأكثر مرصوفة بشكل جيد، أما بقية المدينة فتعود فى تخلفها وقلة نظافتها إلى القرن الثامن عشر، ولم يعد يوجد نظير فى العالم لهذه المدن المصرية البائسة إلا فى إفريقيا جنوب الصحراء، أو شبه القارة الهندية، وهى مليئة بالناس الغلابة الذين تخلت عنهم الحكومة وما زالت متخلية عنهم حتى الآن، وطوال هذه الفترة لم يجدوا من يدعمهم ويقف بجانبهم إلا عددا ضئيلا من الجمعيات الإسلامية، فعندما تخلت وزارة الصحة عن دورها فى علاج المرضى، وتحولت مستشفياتها إلى مبان خالية من الأطباء والأدوية، تحولت الأفنية الخلفية للمساجد إلى عيادات متخصصة يعمل فيها أطباء لا يتلقون إلا أجرا زهيدا، ومعامل للتحاليل تعمل بسعر التكلفة، ويذهب المعدمون من أبناء الحى إلى إمام المسجد، ويقدمون إليه «روشتات» الدواء التى كتبها الطبيب وفيها أدوية لا يقدرون على دفع ثمنها، فلا يقول لهم إلا «مقضية بإذن الله» ولا يمضى يومان إلا وقد تمكن من تدبير كل الأدوية المطلوبة، وعندما تخلت وزارة التربية والتعليم عن دورها وازدحمت فصولها حتى عجزت عن توفير «دكك» لطلابها، تحولت المساجد والجمعيات إلى مجموعات للتقوية فى كل المواد وجميع الشهادات، بأجر رمزى وأحيانا بلا أجر، فى هذه المحنة التى استطالت وجد الغلابة من يقف بجانبهم، ويمد لهم يد المعونة رغم ظروفهم الصعبة، كانت هذه الجمعيات مثلهم تماما، عزلاء وبلا حماية، لا تسلم من بطش الشرطة المصرية التى أدمنت البطش، وكان هذا أمرا طبيعيا، فلم يكن الناس يتوقعون من الحكومة إلا هذه التصرفات، وعليهم فقط مواصلة لعبة البقاء على قيد الحياة، واكتشفوا فى النهاية أن مصر تنقسم إلى طبقتين لا ثالثة لهما، طبقة صغيرة فى يدها تملك كل السلطات هى طبقة «الأفندية»، ينتمى إليها النظام ورئيسه ووزراؤه وشرطته وموظفوه ورجال أعماله وكل أحزابه، التى معه والتى ضده، وكل من يظهر على شاشة التليفزيون، بغض النظر عن الموضوع الذى يتحدث فيه وكل من يكتب فى الجرائد مهما كانت أفكاره، يكونون جميعا كتلة واحدة، شديدة الصخب، لا تكف عن اختلاق الصراعات مع بعضها بعضا، ولا تهتم إلا بقضاياها ومصالحها الشخصية، ماهرة فى إطلاق الوعود التى لا تنفذ، وفى إقامة المشروعات التى لا تكتمل، والمهرجانات الباذخة الخالية من المعنى والهدف، وفى المقابل هناك طبقة «الغلابة»، التى تضم سواد الشعب المصرى، تعيش كلها فى عشوائيات تطلق عليها مدنا وقرى، المياه مقطوعة فى بيوتها، والترع جافة فى حقولها، يذل أهلها كل صباح وهم يقفون فى طابور رغيف الخبز المدعم، ويموتون من أجل أنبوبة بوتاجاز، وتتسلط عليهم طبقة من الموظفين الفاسدين، لا يقرؤون الجرائد لأنه لا يوجد فيها خبر يخصهم، ولا يتابعون نشرات الأخبار لأنهم يكرهون كل ما فيها من وجوه، ويموتون بكثرة وبسهولة فى حوادث غرق العبارات وحرائق القطارات وتساقط الصخور أو على يد الشرطة، ولا يوجد من يعزيهم أو يأخذ بخاطرهم، بينهم وبين طبقة الأفندية يوجد سور غير مرئى ولكنه موجود، مكون من زجاج معتم ذى اتجاه واحد، يستطيع منه الغلابة رؤية أفعال الأفندية، دون أن يأبه الأفندية بوجودهم، وقد اكتشف ذلك الدكتور محمد البرادعى حين ذهب إلى إحدى العشوائيات، وقالوا له: إنت أول أفندى يأتى إلينا، لا يأتى إلينا سوى الإخوان المسلمين.

وللمرة الأولى فى تاريخها أتيح لهذه الطبقة «الغلبانة» أن ترى صناديق الانتخاب، وأن تمسك فى يدها بطاقة مليئة بالرموز قالوا لها إنها ستحدد مستقبلها، بالله عليكم ماذا كان يمكن للمواطن «الغلبان» أن يختار؟ إمام المسجد الذى يوفر له الأدوية، أم الأفندى الذى يجلس فى التليفزيون متحدثا عن الديمقراطية؟ عضو الجمعية الإسلامية الذى يكرم موتاه، أم أفندية الأحزاب الذين لم يرهم فى الشارع إلا مؤخرا. المرشح الواقعى الذى جاء إليهم يحمل أكياس الأرز والسكر، أم الذى جاء ليعلن لهم بكل وضوح أنه ليس نائب خدمات، ولكنه نبى مكلف بصنع المستقبل، الإجابة معروفة وليست مستغربة، هل يفسر هذا وقائع الصناديق التى ظهرت منذ المرحلة الأولى وسوف تتأكد فى المراحل القادمة؟ لقد صعدت القوى الإسلامية فوق الصناديق رغم أن خبرتها السياسية قليلة، ودخلت إلى البرلمان وقد فقدت أوراق اللعبة، فقد صوتت ضد إنشاء دستور جديد ووقعت بالتالى فريسة تحت رحمة الوثائق التى يصدرها العسكر، وفقدت حقها الشرعى فى إدارة البلاد، لم تعد تستطيع تشكيل الحكومة بعد أن أخرج المجلس العسكرى كل المومياوات من المتحف المصرى وشكل منها حكومة، ولم تعد قادرة على تشكيل لجنة كتابة الدستور بعد أن أكد السادة الجنرالات ذلك شفويا وعمليا بتكوين المجلس الاستشارى، أى أن معركتها ليست مع الحق والباطل، وما يجوز وما لا يجوز، معركتها أن تثبت أنها شرعية، وجديرة بأصوات الشعب الذى اختارها، أن لا تدخل فى صفقات وتحالفات، ولا تجرنا معها إلى أنفاق مظلمة أخرى، ببساطة.. نريد دولة مدنية تعبر عن الغلابة ولا يحكمها العسكر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق