الخميس، 22 ديسمبر 2011

المهمة الحقيقية لحكومة الجنزورى - أحمد منصور

جريدة التحرير - 22/12/2011

فى شهر يونيو الماضى التقيت فى العاصمة تونس رئيس الحكومة المؤقتة الباجى قايد السبسى، وهو أحد رجال الرئيس الراحل الحبيبب بورقيبة البارزين والمخضرمين، عمل معه فى عدة وزارات منذ الستينيات من القرن الماضى أهمها وزارة الداخلية وقد اعترف السبسى فى لقائى معه بأن كل الانتخابات التى جرت فى عهد بورقيبة وبن على هى انتخابات مزورة، غير أن أهم ما قاله السبسى فى مقابلتى معه هو أن المهمة الأساسية لحكومته هى وضع خطة الطريق بل تحديد مسار الحكومة القادمة من بعده لخمس سنوات على الأقل، وهذا يعنى أن السبسى والفريق المتعاون معه كان يدرك أن الشعب التونسى قرر التغيير، والتغيير يعنى المجىء عبر الانتخابات بفريق جديد كانت التلميحات تشير إلى أنه سيكون من الإسلاميين وتحديدا من حركة النهضة التى شرد رجالها فى أنحاء العالم ومَن بقى منهم سُجن داخل تونس واستمر هذا الوضع ثلاثة عقود كاملة من عام 1981 حتى عام 2011، حيث أُفرِج عن المعتقلين منهم وعاد المطارَدون بعد نجاح الثورة التى اندلعت قبل عام من الآن وتحديدا فى السابع عشر من ديسمبر الماضى.

قضى الباجى قايد السبسى عشرة أشهر يضع القيود الاقتصادية والسياسية لمن سيأتى من بعده، وكانت النتيجة هى إغراق البلاد فى مزيد من الديون، وتقييدها بمزيد من الاتفاقيات، أما العقبة الكبيرة التى وضعها أمام الحكومة القادمة بعدما حققت حركة النهضة الفوز الكاسح فى الانتخابات وكلفت بتشكيل الحكومة فهى قرار بزيادة رواتب كل موظفى الدولة (نحو نصف مليون موظف) زيادة تُقدّر بمليار دينار تونسى فى وقت تواجه فيه الموازنة والخزينة حالة صعبة للغاية، الأمر الثانى هو ترقية معظم موظفى الدولة، حتى الضباط المتهمين بقتل الثوار تمت ترقيتهم، كما أجرى تغييرات هائلة فى السلك الدبلوماسى للدولة بحيث يصعب على من يأتى وزيرا للخارجية إجراء أى تغيير على اعتبار أن التغييرات التى أجريت هى حديثة والعادة أن لا يتم إجراء تغييرات للموظفين إلا كل أربع سنوات، كما أجرى تغييرات هائلة فى إدارات الدولة المختلفة ووضع رجال بورقيبة وبن على فى القمة بحيث يصعب على من يأتى أن يدخل فى متاهة الصراعات الإدارية فى ظل أن الوزراء تقريبا كلهم لم يسبق لهم العمل داخل دوائر الدولة، إما كانوا فى السجون وإما كانوا مطاردين وإما كانوا من المغضوب عليهم فى ظل نظام بن على، وقد أكد السبسى ما قام به حينما قال فى كلمة له أمام مؤتمر «تبادل خبرات المرحلة الانتقالية» الذى عقد فى العاصمة تونس فى 13 ديسمبر الماضى «إن الحكومة التى سيعلن عن تشكيلها قريبا ستجد تركة من التحديات فى انتظارها». وقد أكد الجانب الاقتصادى المقيد بقوله «حكومتنا أعدت برنامجا اقتصاديا يقطع مع أى مرجعية أيديولوجية ولهذا أعتقد أن المجموعة الوزارية الجديدة ستواصل تنفيذ هذا المخطط الذى أعدته شبكة من الخبراء التونسيين».

هذه المقدمة الطويلة للهدف الرئيسى من المقال تؤكد باختصار أن المهمة الأساسية والحقيقية لحكومة الجنزورى فى مصر هى نفس المهمة تقريبا التى قامت بها حكومة السبسى فى تونس لرجل من نفس الطراز ولكن فى مصر الثورة، فبعدما قام المشير طنطاوى رئيس المجلس العسكرى بإقالة حكومة المنطفئين وهى حكومة عصام شرف جاء برجل من زملائه القدامى وأحد رجال مبارك المخضرمين الذين لعبوا دورا أساسيا فى بيع ممتلكات الشعب وهو كمال الجنزورى رئيس الوزراء الأسبق، ففى عهده وخلال ثلاث سنوات بيع من أملاك الشعب 133 شركة من شركات القطاع العام، ووضع الأساس لمشروع من أفشل المشاريع الاقتصادية فى مصر لا من حيث الفكرة ولكن من حيث التطبيق وهو مشروع توشكى، لكن لأن ذاكرة الشعوب ضعيفة، وتقيّم الناس بالانطباعات لا بحقائق الأعمال، ولأن كل من أقاله مبارك نُظِر إليه على أنه من معارضيه وأنه من الشرفاء نظيفى اليد دون تمحيص حقيقى فى الملفات، فقد ساد هذا الانطباع العام عن الجنزورى متناسيا أعماله طوال أكثر من خمسة عشر عاما عملها مع مبارك ونظروا فقط إلى أن مبارك قد أقاله دون دراسة الأسباب أو التعرف عليها. وما يؤكد أن الجنزورى جاء حتى يحقق نفس النتائج التى حققها السبسى أن الجنزورى يتصرف ويتحدث كأنه جاء ليبقى إلى الأبد وأنه سيضع السياسات لسنوات قادمة ويتعاقد من أجل الاستثمارات القادمة فى الوقت الذى من المفترض فيه أن حكومته التى ستبقى ستة أشهر فقط جاءت لتسيير الأعمال لا للبقاء إلى الأبد، لكنها باختصار جاءت لتضع طوقا حديديا اقتصاديا وسياسيا وإداريا ودبلوماسيا فى رقبة أى حكومة قادمة حتى لو أسسها الخلفاء الراشدون لا الإخوان المسلمون، وتجعلها عاجزة أمام الشعب ومقيدة أمام الخارج، فالوضع الاقتصادى فى مصر مزرٍ للغاية بل «غير متصور» حسب وصف الجنزورى نفسه. وقد أكدت التقارير أن الحكومة المنتخبة القادمة سوف تجد نفسها طوال عامين أمام قروض قصيرة الأجل عالية الفائدة علاوة على الديون طويلة الأجل التى وصلت فى حد الدين الداخلى وحده إلى أنه أصبح موازيا الدخل القومى للبلاد، حسب آخر التقارير التى نشرت يوم الأربعاء الماضى، وهذا ما دفع حكومة الجنزورى إلى أن تطرح يوم الإثنين 19 ديسمبر أذونات للخزانة تقدر بخمسة مليارات جنيه بفائدة عالية جدا تقدر بـ١٤٫٠٦% على أذون ثلاثة أشهر، و١٥٫١٤% على أذون تسعة أشهر ومع ذلك لا تجد من يشتريها بسبب عزوف البنوك عن الشراء وكذلك عدم الثقة بالحكومة، وهذا -حسب الخبراء- اتجاه يزيد من مخاطر الدين الداخلى.

إذن المهمة الأساسية لحكومة الجنزورى واضحة، وعلى الشعب العظيم الذى قام بهذه الثورة العظيمة أن يدرك حجم المخاطر التى تحيق بها وأن يتخلى عن عاطفته وانطباعاته فى تقييم الأشخاص وأن يقف عند حد أدوارهم وإنجازاتهم لا عند الانطباعات التى ترَّوج عنهم، وأن يدرك أن المستقبل لا يصنعه رجال الماضى.

إن الأشهر الستة القادمة المهمة الأساسية فيها هى تكريس سياسة الطوق الحديدى لأى حكومة قادمة حتى تبقى أسيرة لنظام مبارك وسياساته وسياسات رجاله مهما كانت وعودها للشعب.

http://tahrirnews.com/مقالات/المهمة-الحقيقية-لحكومة-الجنزورى/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق