السبت، 24 نوفمبر 2012

ما أراه في إعلان نوفمبر الدستوري - أيمن زعقوق

أعتقد – فيما يخص الإعلان الدستوري الصادر في 22/11/2012 – أنه من الأفضل الأخذ بالنوايا الطيبة وانتظار فترة الشهرين المحددة حتى الانتهاء من وضع الدستور وانتخاب البرلمان، وذلك للأسباب التالية:


1-    هذه ليست المرة الأولى التي تحصن فيها قرارات إدارية ضد الطعن، ولعلنا نتذكر قرارات لجنة الانتخابات الرئاسية التي قررت استبعاد خيرت الشاطر وحازم أبو إسماعيل واستمرار أحمد شفيق رغم اعتراض الكثيرين بل ورغم مخالفة ذلك صحيح القانون في رأي البعض. ليس معنى ذلك اني أوافق على التحصين "الدائم" لقرارات رئيس الجمهورية، ولكني مقتنع بضرورتها في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ مصر، والتي تشكل ترسانة القوانين الفاسدة فيها مع وجود محاميي الشيطان عقبة كؤود في مسيرة تطهير المؤسسات بل والبناء ككل.


2-    الإعلان وماتبعه من قوانين ليس شرا مطلقا، ولم أجد في مصر – حتى بين المعارضين – من يعترض بالمجمل على كل ماورد فيه. أنا شخصيا مع إقالة النائب العام، لكني لست مع استمرار اطلاق سلطة الرئيس في التعيين في هذا المنصب، وهو ما أتمنى أن يتغير بعد عودة البرلمان وإقرار قانون جديد للسلطة القضائية.


3-    ماهي البدائل المقترحة لتنفيذ أهداف الثورة؟!

a.      كيف تستطيع إزاحة النائب العام الذي سمعنا من بعض القضاة انه لاعب رئيس في التستر على الفساد وإهدار حقوق شهداء ومصابي الثورة؟

b.      كيف ترد حقوق المصابين والشهداء والقتلى في أحداث الثورة وفق منظومة قانونية روتينية تعتمد على نص القانون لا روحه وتستند على أجهزة بحث فاسدة وصاحبة مصلحة لأنها في حد ذاتها قتلت وأفسدت على مدى عقود طويلة.


4-    هل هناك مخاطرة بالتحول إلى نظام حكم ديكتاتوري في حال استمرار هذا الإعلان؟ طبعا هناك نسبة مخاطرة لكنها ليست كبيرة ولا حتمية، لكن هناك نسبة مخاطرة أعلى بكثير – في حال إلغاء هذا الإعلان – لحدوث الفراغ والفوضى واستمرار التيه العظيم الذي نعيشه منذ قيام الثورة، بالإضافة للمخاطرة المحققة – وليست المحتملة – باستمرار الفساد وتأخر النمو.


5-    لطالما اتهمت رموز المعارضة التي تتصدر المشهد الآن الرئيس مرسي بالضعف والتنكر للثورة والنكوص على الوعود بتحقيق أهدافها، ولم يطرحوا خططا محددة لتنفيذ هذه الأهداف. بل إن احد اكبر رموز المعارضة منذ عهد مبارك – معروف بتغيير آرائه ومواقفه بشكل مربك – اقترح على حزبه الوليد منذ أيام المصالحة مع رموز الحزب الوطني وضمهم إلى حزبه ولم أسمع من الثوار تعليقا! وعليه فقد قررت شخصيا ألا أشغل بالي بما يراه هؤلاء الرموز الذين تتحكم في الكثير منهم المصالح والأهواء. فمثلا أحد المنقلبين حديثا على الإخوان المسلمين كان عضوا بمجلس الشعب عن طريق ترشحه على رأس قائمتهم لعلمه بأنه بذلك يضمن الوصول للبرلمان، والان انسحب من تأسيسية الدستور ويهاجم الإخوان!

ومع ذلك أيضا فأنا أرى في تيار المعارضة العنيف هذا فائدة كبيرة تحمي مصر من أي تحول للاستبداد، وتبعث للرئيس برسالة مفادها أنه غير مطلق اليد في أحوال البلاد والعباد.



6-    فيما يتعلق بالجمعية التأسيسية لوضع الدستور، أرى أن ماقرره الرئيس هو أفضل الخيارات وأكثرها منطقية، وذلك للأسباب التالية:

a.      المنسحبون من الجمعية من التيار الليبرالي لم يحددوا بوضوح نقاط الخلاف والاعتراض التي دعتهم للانسحاب، بل أن كثيرا من غير أبناء التيار الديني في الجمعية – من أمثال جمال جبريل ومنار الشوربجي – اتهموا المنسحبين بأنهم اعترضوا على نقاط إما وافقوا عليها مسبقا أو كانوا هم من اقترحها! بل إن تشكيل الجمعية الحالية ككل كان من اقتراح الدكتور محمد أبو الغار الليبرالي المعروف!

b.      إلغاء الجمعية الأن هو هدر لجهد وأموال بذلت على مدار الأشهر الفائتة، وعودة لنقطة الصفر!

c.       إلغاء الجمعية الأن سيطيل حالة الارتباك والفراغ التي نعيشها منذ مايقرب من عامين.

d.      اذا ألغيت الجمعية فسيقوم الرئيس – وفقا لإعلان مارس 2011 – بإعادة تشكيلها، فهل نتوقع بعدما كل مارأيناه من الفرقاء السياسيين في بلدنا أن يرضي التشكيل الذي سيختاره الرئيس الكل، أم أننا سندخل دوامة جديدة من الفعل ورده؟!


لننتظر ونرى.

الأحد، 4 نوفمبر 2012

دروس من انتخابات الكنيسة المصرية - أيمن زعقوق

اليوم أهنيء المصريين جميعا بانتخاب بابا الكنيسة الأرثوذوكسية المصرية، وأتمنى أن يوفقه الله لما فيه صالح شعب مصر، وان يجعل عهده عهد ازدهار ومساواة حقيقية وعدالة كاملة و وحدة صلبة لاتضام. واسجل هنا امتناني وانبهاري بهذا الرمز المعتدل المتسامح النزيه: الأنبا العظيم باخوميوس الذي تحمل العبء في وقت عصيب من تاريخ الكنيسة المصرية وتاريخ مصر.
وفيما يلي بعض الدروس التي استخلصتها كمواطن مصري تابع عن بعد عملية انتخاب بابا الكنيسة المصرية العريقة:
1-      الشفافية والوضوح أساس أي عملية ديمقراطية ناجحة. فرغم ما نعلمه من أن رجل الدين المسيحي شيء من القدسية في عقيدة الإنسان المسيحي، فقد صممت القيادة المؤقتة للكنيسة المصرية على إجراء العملية الانتخابية بمنتهى الشفافية والوضوح وبما لا يدع مجالا للتشكيك، ولم تجر الانتخابات في غرف مغلقة بحجة أن القائمين عليها أنزه من أن يكونوا موضع شكيك أو تخوين (وهم بالفعل نزيهون شرفاء).
2-      الاعتدال. الشعب المصري شعب معتدل ويكره التشدد و التطرف، كما ينفر من التشاحن والتناحر، يظهر ذلك جليا في اختيار المسيحيين المصريين لقيادتهم الروحية، فقد كانت القيادة المؤقتة للكنيسة (نيافة الأنبا باخوميوس) والناخبون والرأي العام المسيحي تدفع باتجاه المرشحين المعتدلين وتستبعد المعروفين بالتشدد والتعصب. ولا اعتقد أن عموم مسلمي هذا الشعب اقل تسامحا أو اعتدالا من مسيحييه، ولا اعتقد أن مسيحيا أو مسلما يمكن أن يضع جنبه مطمئنا مرتاح البال وقيادته الروحية تزكي نار التعصب وتشحذ خناجر التطرف.
3-      الالتزام بالقانون. فرغم أني أعلم أن الكثير من المسيحيين غير راضين بالكامل عن لائحة 57 التي جرى انتخاب البابا وفقها، الا انهم التزموا تماما بها وتقبلوا ما أسفرت عنه. ويمكنني أن أخمن أن سبب هذا القبول قد يكون ثقتهم في القائمين على العملية الانتخابية واطمئنانهم إلى أن القانون سيطبق بنزاهة وعلى الجميع، فلم نشهد مظاهرات أو فوضى أو اعتراضات كتلك المنتشرة في أرجاء وطننا هذه الأيام، والتي يمكن تعليلها بفقدان الثقة والإحساس بالظلم والتحيز.
4-      دور الدولة. إذا أردنا – فعلا لا قولا – أن تخرج القيادات الدينية على الجانبين من المشهد السياسي، فعلى لجنة وضع الدستور والرئيس وحكومته والبرلمان المقبل أن يتكاتفوا جميعا لإرساء العدالة والمساواة والقضاء على جميع صور التمييز بين المسلمين والمسيحيين، حينئذٍ لن يجد المسجد أو الكنيسة ما يدعو للتدخل والدفاع عن حقوق أبناء الديانة. فكيف للبابا الجديد – مهما كان معتدلا ومتسامحا – أن يسكت حيال ما قد يتعرض له بعض أفراد شعبه وأبنائه من ظلم بسبب ديانتهم من بعض المشوهين أو المختلين إذا غاب دور الدولة العادلة، التي لا ترى في مواطنيها إلا مواطنتهم دون النظر لدينهم أو جنسهم أو لونهم!
هل من دروس أخرى؟

كنيسة الوطن ووحدة الوطن - عبد المنعم أبو الفتوح

إيلوثيريا - باسم صبري

المصري اليوم - 30/10/2012

أجلس مع نفسي أُسَطِّر هذه الكلمات وأنا أفكر في مرحلة جديدة من عمري، تبدأ سنواتها بالرقم ٣ بدلاً من الرقم ٢. شعرت بالهلع على مدار الأسابيع السابقة لهذا التحول، وازداد هلعي كلما اقترب ذلك اليوم الفاصل في أواخر شهر أكتوبر. ثم أتى ذلك اليوم ومر، ولا أزال موجودًا، ما زالت ملامحي هي ذاتها ملامحي منذ أسبوع مضى، كل ما تغير هو إدراكي لبعض الأشياء. فجأة، مرت كل أعوام عمري حتى يومي هذا أمام عيني، ووجدت نفسي أدرك في لحظة واحدة كل ما أدركته على مدار تلك الأعوام كلها.

لم أصبح رائد فضاء، بل وأنهت أمريكا رحلاتها إلى القمر، وبدلاً من أن أصير رجل شرطة صرت أكتب مقالات عن تطهير الداخلية. لم أتزوج الممثلة الأمريكية وينونا رايدر كما كنت أريد منذ سنوات، بل وتم إلقاء القبض عليها بتهمة سرقة المحلات، وسعدت بأنني لم أسع وراء تلك الزيجة. أحببت مرة أو مرتين، وربما ثلاث مرات، وشعرت عندما فقدت من أحببت أن العالم قد انتهى حرفيًّا، وتألمت جسديًّا كما تألمت روحيًّا، واختبرت مشاعر لست متأكدًا أنني كنت سأرغب في أن أختبرها عن عمد، ولكنني الآن أكثر اكتمالاً كإنسان كوني قد مررت بها، ثم أحببت ثانية وفقدت ثانية، وكان الألم أقل. والآن، فالحب بالنسبة لي هو شيء أقل براءة وربما أقل عفوية في الكثير من الأشياء، ولكنه صار شيئًا أسمى وأعمق، وهذه مبادلة أتقبلها، كما وجدت أن أحلى الحب هو الحب الذي يكون أنت وحبيبتك فيه أقرب الأصدقاء أيضًا، فتشتاق لمحادثتها كما تشتاق لأن ترى وجهها.

خذلني الكثيرون ممن وثقت بهم، واكتشفت أن الثقة العمياء ليس لها مكان في الحياة، وخسرت أصدقاء وكسبت أصدقاء، وأدركت أن لا أحد يريدك أن تكون أفضل منه في أي شيء. وتعلمت أن كل البشر هم بشر، وأننا علينا أن نتقبلهم كما هم دون أن نتوقع منهم أن يكونوا ملائكة، فعدت إلى محبتي حتى لمن خذلوني. وتعلمت أيضًا أنه لا يوجد بشر عظماء وخارقين كما كنا نراهم يومًا عن بعد أو عندما كنا أطفالاً.

اكتشفت أن أفضل من قابلت في حياتي هم لا شيء كما يصورهم البعض أو كما تصورتهم أنا، ولكن القلائل منهم الذين يقتربون بالفعل من العظمة هم هؤلاء الذين يعرفون أنهم ليسوا سوى بشر، وأنهم مهما تقدم بهم العمر فإنهم لديهم ما يتعلمونه ويفهمونه، من الصغار قبل الكبار، فقد يتقدم بك العمر ولا تزداد حكمة، بل وربما قد تقل حكمتك وتزداد - إن زدت - عندًا وغرورًا. وتعلمت في هذا الإطار أن الغرور هو أخطر ما يقتل البشر، وأن أسوأ أنواع الغرور هو ما يعمي صاحبه عن وجوده، فيتصور أنه فعلاً إنسان عظيم ولا يخطئ، وأن الكل لا يفهمه أو يفهم ما يجري.

تعلمت أن الإنسان عليه أن يفكر جيدًا قبل أن يتخذ قراره إلا أن الكثير من التفكير قد يشل البشر أيضًا، وأنه أحيانًا علينا أن نقفز في البحر ثم نحاول في قدر من الذعر أن نكتشف كيفية العوم. وتعلمت أن هناك من البشر من يحترف رؤية السيئ في كل شيء وتوقع فشله، ولذته السادية في الحياة هي في إحباط ذاته ومن حوله، فلا يعلون ولا ينجحون مثلما هو فقد الأمل في العلو والنجاح. وكان أفضل ما فعلت في حياتي هو التخلص من هؤلاء بعد أن يئست من تغييرهم، مهما كان حبي لهم ومهما كان قربي لهم. وتعلمت، في المقابل، أن هناك بشرًا مذهلين، إن سألتهم إذا كان يمكن تحطيم جبل ضخم بملعقة فيجيبون أن كل شيء ممكن إن أحسنا التفكير وأصررنا على ما نريد، بل ويبدأون فورًا في التفكير في العمل ذاته بدافع من الفضول ومن التحدي للذات. وبعضهم بالفعل يجد شقًّا في الجبل، وفور أن يضرب ذلك الشق بملعقته الضئيلة فإذا بالشق يمتد في الجبل كله فينهار، فكل شيء ممكن لمن يؤمن ويفكر ولا ييأس. وكان أعظم ما تعلمت هو أن أحيط نفسي بمن أريد أن أكون مثلهم، أو من أريد أن أتعلم منهم، وكان أعظم ما تعلمت هو أن أفكر فيما أريد وما أريد أن أكون، وليس فيما لا أريد وما لا أريد أن أكون.

وتعلمت شيئًا أو اثنين عن العمل. فأحيانا علينا أن نحب ما نعمل، ولكن أكثرنا حظًّا هو من يحب ما يعمل. وعلينا أن نكون جيدين فيما نعمل، وألا تشغلنا المنافسة الفارغة عن هدف العمل ذاته، وأن نرى أي قيمة فيما نفعل، فتصبرنا تلك القيمة على سخافات الأيام. كما تعلمت أن العِلم هو حليفك الوحيد الذي لا يمكن أن يتخلى عنك، وأن الموهبة دون العلم لا تصل بك إلى ما تحتاج الوصول إليه، وأن «شعورك الداخلي» بالقوة وثقتك في مشروعك بالرغم من تشكيك الآخرين فيه علميًّا هو أحيانًا ضرب من ضروب جنون العظمة، وليس بالضرورة دليلاً على إصرارك.

كما تعلمت أن الموت أنواع، وأن بعض البشر يختار أن يموت بينما قلبه لا يزال ينبض وعينه ترى وجسده يتحرك ولسانه ينطق. هؤلاء يسيرون بيننا ويبدون أحياء، وهم - على أفضل تقدير - في غيبوبة. بعضهم يمكنه أن يستيقظ إن قرر أن يكسر خوفه من الحياة، وإن أراد أن يدرك أن الخوف من الفشل - أو من الاعتراف بالحقيقة ثم تقبلها والتغير على أساسها تباعًا، كليهما - أسوأ من الفشل ذاته. إلا أنني أدركت أيضًا أن البعض يحتاج صاعقة من الخارج لتفيقهم، وأحيانًا هذه الصاعقة لابد أن تكون أنت، كما أنني تعلمت أن البكاء ليس عيبًا، إلا أن تعود البكاء عيب.

عشت طفولتي معتقدًا أن مصر هي مركز الكون بسبب «موقعها الجغرافي المتميز ومناخها الحار جاف صيفًا ودافئ ممطر شتاء» كما قاموا بتحفيظنا بالمدارس، واعتقدت أن حسني مبارك هو أعظم رؤساء العالم كما كان يكتبون في الأهرام وتقول القناة الأولى، واعتقدت أنه لا يمكن أن يكون هناك بشر جيدون بعيدًا عمن كانت عقيدتهم كعقيدتي. ثم سافرت، ونطق لساني اثنتي عشرة لغة، وسمعت أذناي مائة وعشرين. ورأيت أوروبا وأمريكا والهند والصين ودول العرب، فرأيت من يسب رئيس دولته في الإعلام في أعظم الدول تقدمًا، ورأيت أن المجتمع يرى أن هذا ثمن مقبول للحرية، وأن من يترشح ضد ذلك الرئيس ويقول بفشله أمام العالم كله لا يجد نفسه قابعًا في زنزانة بعد الانتخابات. رأيت أحزابًا وتيارات تتنافس من أجل الفوز بثقة وأصوات شعوبها عن طريق التنافس على خدمتهم ودون تقسيم لأفراد الشعب إلى أعداء وحلفاء، ورأيت - مصدومًا - أن بعض الدول لا ترى أن الرئيس مبارك هو أعظم رؤساء العالم كما كانوا يقولون في الأهرام وتقول القناة الأولى، بل إن بعضهم لا يعرف حتى من هو حسني مبارك، وأن الكثير من الأنظمة تحاول أن تقنع شعوبها بأنها مركز الكون وأن حكومتها وزعيمها هما الأهم في العالم. ثم رأيت الشعب ذاته - وأنا منضم إليه - يثور ليُسقِط مبارك ونظامه، فإذا بذات الأهرام وذات القناة الأولى تحتفلان بسقوط ذات الطاغية الذي كانتا ترددان اسمه منذ أيام!

كما عرفت أن الحدود من صنع البشر، وأنك فردًا من البشرية قبل أن تكون فرنسيًا أو صينيًا أو أمريكيًا، وأن الوطنية العمياء هي فكرة من الماضي، وأن القدر هو السبب أنك وُلدت كما وُلدت.

كما قابلت هندوسًا وبوذيين ومسيحيين ويهودًا ولا دينيين ومن لا يزالون يبحثون وغيرهم، وقابلت ذوي البشرة البيضاء والسمراء والصفراء والحمراء والبنية وبين البينين وما يصعب تصنيفها، ووجدتهم كلهم بشرًا مثلي، منهم من هو أفضل مني ومنهم من لا أريد أن أكون مثله، وصرنا أصدقاء وصرت كإنسان أكثر ثراء، وأدركت أن البشر شيء واحد، وأن التعايش ممكن، وأننا لابد أن نلفظ دعاة الكراهية بيننا، وأننا سنحقق بالقلم والكلمة أكثر وأسرع بالكثير مما سنحققه بالأسلحة والجعجعة، وأننا علينا أن نسمو فوق قادتنا وجماعاتنا وأحزابنا وحكوماتنا ومصالحهم. وبالإضافة، فقد صرت أكره كل محاولات تصنيف البشر إلى أيديولوجيات ومجموعات محددة ومعلبة مسبقًا، فذاك ليبرالي وذاك يساري وذاك إخواني وذاك أناركو-سينديكالي، وكأنه لا يوجد من يمكنه أن يؤمن بخليط من تلك الأفكار، أو من يمكنه أن يبتكر فكرة جديدة، مع إدراكي أن بعض البشر ليسوا مولعين بالضرورة، في بادئ الأمر، بالأفكار الجديدة أيًّا كانت. كما تعلمت أننا كلنا تقريبًا، على اختلافنا، قد أدركنا القاعدة الذهبية للإنسانية: أن تفعل لغيرك ما تريده لذاتك، أيًّا كان، وألا تفعل في غيرك ما لا تريده لذاتك، أيًّا كان، وأن ما تفعله سوف يُرد إليك أضعافًا مضاعفة، المر والحلو منه.

تعلمت أنه لن يمكنك مساعدة غيرك دون أن تساعد نفسك أولاً، إلا أنني أدركت أن أعظم شرف يمكن أن يحدث لك هو أن تأتي لك فرصة حقيقية لأن تساعد ولأن تُسعد إنسانًا آخر.

أدركت أنه ليس من حق أحد البشر أن يتحكم في بشر مثله إلا فيما لا يؤذي غيره، وأننا أقوى بكثير من الظروف بأكثر مما تصورت. أدركت أنه ليس من حق أحد أن يُِسكِت أحدًا أو أن يتحكم فيما يقرأ أو يعرف، فهو بشر مثله مثل غيره وليس أفضل من غيره لكي يتحكم فيه إن كانت الأدوار معكوسة. كما أدركت أن الحرية ليست فقط هي الحرية من قيود السلطة والقوانين المجحفة، ولكنها أيضًا الحرية من قيود توقعات الغير لك، والتوقعات غير المنطقية للذات، وألا تخلط بين ما تريده أنت وما يريده من حولك والقريبون منك لك، وبين ما يعتقد المجتمع أنه هو الصواب الأصوب لك وللكل، وأن تختار أنت بذاتك ما تريده أنت لذاتك، حتى ولو كان كل ما سابق ذاته. كما تأكدت أنه إن قام المرء بالسكوت يومًا عن ظلم وقع لغيره لأنه لا يعنيه مباشرة أو لأن ذلك الظلم قد يفيده أو يريحه بصورة ما، فسيأتي اليوم الذي يقع فيه الظلم ذاته أو أسوأ منه على ذات المرء، ولن يتحدث أو يأتي أحد دفاعًا عنه، وسوف يحس المرء بمرارة الشعور باستحقاقه لما يحدث له.

وأدركت أن أغلب من يتحدثون بغضب وصوت عالٍ عن أفكارهم دون داعٍ هم خائفون ومهزوزون. ووجدت أغلب البشر شديدي الثقة بشكل مستفز في أيديولوجياتهم وأفكارهم السياسية والاقتصادية والفلسفية، وكأن كل من حولهم غبي مخدوع أو ساذج أو سيئ، وأنهم هم وحدهم من أدركوا كل شيء، وأدركت أنه لا يوجد إنسان واحد يجيد تحييد تحيزاته الإنسانية قبيل قيامه باتخاذ قرار أو تبني موقف، فكل إنسان لديه ما سيريحه بحياته ولن يختار بسهولة الحقيقة إن أبعدته عما يرتاح إليه، وسيقوم تلقائيًّا بالبحث عن الحقيقة في أي شيء بالشكل الذي يوصله إلى ما يريد مسبقًا الوصول إليه. وعرفت أن مقولة «لا أعرف، ولست متأكدًا، وربما لن يمكنني التأكد تمامًا» هي موقف مقبول جدًا، فأنا لن أعرف كل شيء، ولن أفهم كل شيء، وإن حاولت أيهما فلن أجد الوقت لفعل أي شيء. كما أدركت أنني عليَّ أن أراجع ذاتي إن وجدت نفسي دائمًا متفقًا مع من حولي ومشابهًا لهم، أو إن وجدت نفسي دائمًا أختلف معهم ولا أشابههم. وتأكدت أنني مهما كنت مقتنعًا ومنبهرًا برجل علم أو فكر، فيجب أن أفكر في كل ما يقول، وأن أقتنع بكلامه عن حق إن استحق ذلك، وأن أفكر أكثر وأعمق في الأقوال كلما زاد تعلقي بذلك المعلم. واكتشفت أنه من الأفضل أن أفكر قبل أن أنطق، بدلاً من أن أفكر في ندم بعد أن أنطق، فالكلمة تظل إلى الأبد، كما أن الله قد خلقنا بفم واحد وأذنين اثنين، لكي ننصت ضِعف ما نقول.

تعلمت ألا أحسد إنسانًا، وأن أكون على دراية مستمرة بما أنعم الله عليَّ به، وأن أتذكر كلما ساءت الظروف أن هناك من ظروفه هي أكثر سوءًا مني. تعلمت أن أغلى ما لدي هي صحتي وإرادتي وعزيمتي وعلمي، وأنه يوجد شيء واحد فقط أغلى منها: أهلك وأسرتك وأصدقاؤك الحقيقيون ومن يحبك. أما العلم، فكل منا عليه أن يبحث عن العلم بكل صوره، وأن يقرأ ويلتهم الكتب والأشعار والموسيقى والعلوم، وأن يعرف شيئًا ما عن كل شيء وأن يعرف كل شيء عن شيء ما. وأما العزيمة تجاه شيء ما فلا يتفوق عليها سوى العزيمة لشيء أهم. وأما الصحة، فهي ليست فقط واجبًا لك من أجل ذاتك، بل هي أيضًا من أجل من تحب ومن يهمك ومن يحتاج إليك؛ وأما الصديق والأهل والحبيب، فلتدافع بشراسة عن أصدقائك الحقيقيين وعن بقائهم في حياتك ولا تنشغل أكثر مما ينبغي عنهم، وكن هناك فورًا إن احتاجوا إليك؛ ولتعمل من أجل إسعاد أسرتك وتشريفهم ورفع رأسهم عاليًا أمام الدنيا، مهما تطلب الأمر، ولتحفظ شرف من تحب ولتعمل من إجل إسعاده في وجوده أو في غير وجوده. هؤلاء هم أعظم وأثمن ما يمكن أن تعثر عليه في حياتك، ولا تدخر جهدًا من أجل إسعادهم، ولا تجعل الرغبة التي هي في غير محلها بالشعور بالكرامة تبني - أحيانًا - جدارًا أحمق عازلاً بينكم، ولا تدع أي إنسان أو أي شيء يقوم بتفريقكم، وإن قال لك شخص ما إن أحد هؤلاء الأقربين قد أساء إليك، فتأكد أولاً، ثم اغفر ما يمكن غفرانه. وإن أسأت إلى أحد منهم، فلا تنم دون مصالحته، فقد لا تجد تلك الفرصة غدًا وسوف تندم طوال عمرك.

علمت أن الحياة دون هدف كالقارب دون وجهة، تعصف بها الرياح كما تشاء. الحلم هو أحلى ما في الحياة، والحياة دون حلم كالهيكل العظمي الذي ليس له ملامح، وأن الحلم غير المبني على الواقع والواقعية سيصير كابوسًا يسقط بك من أعلى، وأن الحلم الذي لا يتحدى الواقع ولو قليلا قد يكون حلمًا غير كاف. وتعلمت أن أسير إلى الأمام إلى هذا الحلم والهدف كل يوم، ولو كان ذلك بخطوة واحدة، بدلاً من أن أهرول يومًا وأن أقف يومًا وأن أتراجع يومًا، وأن الطريق أمتع من الوجهة. وتعلمت أن أتقبل كل ما حدث في حياتي، وما لا يمكنني تغييره اليوم، وأن أغير ما يمكنني تغييره، وأن أعرف الفارق بينهما. كما تعلمت أنني يمكنني أن أتغير إلى الأحسن، مهما تقدم بي العمر، وأن الشباب والشيخوخة هما حالتان في الذهن قبل أن يكونا حالتين في الجسد، وأن أحاول أن أستيقظ كل يوم إنسانًا أفضل من اليوم الذي سبقه، ولو كان ذلك بمقدار بسيط، وأن أفعل ذلك كله مبتسمًا ولو رغمًا عني، فالابتسامة تبقيك وتبقي غيرك أحياء، والابتسامة صدقة.