الخميس، 28 أبريل 2011

أقزام فى المحاكمة..! - حلمي النمنم

تفاجئنا التحقيقات مع الرئيس السابق ومسؤولى نظامه بمستوى غير مسبوق من الهشاشة النفسية والأخلاقية، «صفوت الشريف» يبكى أمام المحقق، حين واجهه بممتلكاته والوثائق التى تثبتها، والأدهى من ذلك الرئيس السابق نفسه، فحين سئل عن دوره فى صفقة تصدير الغاز لإسرائيل ألقى بالمسؤولية على وزير البترول ومعاونيه وأنهم لم يكونوا يرجعون إليه، ثم قال إن الصفقة تمت، وفق اتفاقية «كامب ديفيد» التى وقعها السادات ولم يوقعها هو، وأنه ليس مسؤولاً عنها، وهذه إجابة موظف صغير أو تلميذ فى المدرسة يعنفه معلمه لأنه لم يقم بواجبه المدرسى، وليست إجابة رئيس جمهورية، كان مسؤولاً، وأعلن مراراً أنه يعلى المصلحة الوطنية العليا بغض النظر عن أى شىء!

ليست هذه المرة الأولى ولا هى الأخيرة فى التاريخ لانهيار نظام بأكمله ومحاكمة رجاله، لكننا لا نعرف رجالاً كانوا بهذه الهشاشة، بعد 23 يوليو 1952 حوكم رموز النظام الملكى، ولم يكونوا يمثلون أمام القاضى الطبيعى، بل كانت محاكم استثنائية لا يراعى فيها أى ضمانات قانونية، ومع ذلك كان باشوات العهد الملكى متماسكين..

واجه إبراهيم عبدالهادى حكماً بالإعدام وهو مطمئن إلى سلامة موقفه، وخفف الحكم ثم أفرج عنه ومارس حياته فى حدود الممكن وقتها، لم يكن وحده فى ذلك، بل كان هناك آخرون مثل فؤاد سراج الدين وعثمان محرم، وبعد انهيار النظام الناصرى فى 15 مايو 1971 تم إيداع رموز النظام السجن وحوكموا أمام محكمة استثنائية وتم توجيه تهمة الخيانة العظمى لبعضهم، ومع ذلك كان كبيرهم «على صبرى» متماسكاً وشامخاً، ومن يعد تأمل صورته وهو فى قفص الاتهام يجد نفسه أمام رجل توجه عيناه الاتهام لمن يحاكمونه، لم يبك ولم يولول ويتملص من التهم بصغَار شديد، على النحو الذى نراه اليوم، ولم يكن وحيداً فى ذلك، بل كان هناك آخرون كبار مثل محمد فايق والفريق فوزى و.... إلخ.

ورغم تسلط وإجرام صدام حسين فقد بدا فى التحقيق معه متماسكاً ويحمل موقفاً واضحاً لم يتراجع عنه ولم يتخاذل، على الأقل، أمام نفسه، وفى مشهد تنفيذ الإعدام بدا كأنه يولد من جديد.. قوياً غير هيّاب، لكن رئيسنا السابق وبطانته كشفوا خواء حقيقياً وللمرء أن يتساءل: كيف حكم هؤلاء مصر لثلاثة عقود؟!

كانوا صغاراً وهم يحكمون، وأقزاماً وهم يحاكمون، مبارك المتغطرس، يخشى الانتقال إلى السجن ويقول فى التحقيق «إلا أولادى».. لو كان لديه قدر قليل من المسؤولية الوطنية، وأصدر بياناً يعتذر فيه إلى الشعب المصرى عما صدر منه، ولو كان مدركاً لطلب هو من نفسه أن يتحمل المسؤولية ويحاسب عن كل ما وقع، فعلها عبدالناصر فى بيان التنحى، فاكتسب تقدير المصريين واحترامهم، وقبل ذلك بقرون تمسك طومان باى بدفاعه عن استقلال مصر، وحين عُرض عليه أن يحكمها، لكن فى تبعية غير مصرية، رفض وتقدم بكل ثقة نحو حبل المشنقة أمام باب زويلة، فحمله المصريون فى ضمائرهم تاريخاً حياً ونوراً لا ينطفئ حتى اليوم.

حتى معتادو الإجرام حين يضبطون ويدركون أن حبل المشنقة أمامهم، يبدون أكثر تماسكاً.. حين قبض على «ريا» فى الإسكندرية، مطلع العشرينيات من القرن الماضى، قالت أمام وكيل النيابة: هىّ موتة ولا اتنين، وأدلت بكل ما لديها، بلا خوف وبلا وجل من مواجهة مصيرها المحتوم، بينما صفوت الشريف يبكى.. بكاء الخوف والفزع، لا بكاء الندم أو التطهر.. والرئيس السابق يقول: «ماليش دعوة»!!

لقد استقوى هولاء بضعفنا، وكان هذا النظام يستحق السقوط.

كانوا صِغاراً وزادتهم السلطة صَغارًا، لم يكبروا بها ولم يرتقوا معها، بل انحدروا إلى حد غير مسبوق، وها هم يدخلون التاريخ اليوم من باب التخاذل والصَّغار والخواء الإنسانى إلى أقصى حد، فافتقدوا الحدود الدنيا من التعاطف، وإذا لطف الله بهم نالوا الإعدام، أما ما يستحقونه فهو أن يظلوا هكذا مسخة وعبرة، فلو أعدمنا كلاً منهم عشرات المرات فلن يوفيه ما يستحق من عقاب.

السبت، 16 أبريل 2011

أنين الماء - بلال فضل

عندما سأله المارة الذين تحلقوا حوله فى ميدان التحرير إذا كانت الحكايات التى يرويها حقيقية أم من وحى خياله، قال لهم بثبات أربكهم: «تبقى كل الحكايات العظيمة خرافية إلى أن يؤمن بها الناس».

فى أقل من عام كان قد تحول إلى ظاهرة زلزلت البلاد وأربكت أجهزة الأمن وأعادت طقس مسامرة الأولاد من أجل أن يناموا بعد أن كاد يندثر. الناس كانوا يحتاجون إليه، ولذلك لم تأكل معهم ببصلة الحكايات التى روجتها صحف الحكومة عن كونه «إيرانيا مزقوقا على البلاد»، وقاوموها فورا بحكاية مضادة جعلته عابرا للأوطان «بيقولك إنه استغفر الله العظيم سيدنا الخضر»، وهو لم يكن سوى مدرس أول صنع منه القهر حكّاء عظيما، كل الحكاية أن ابنه الذى شاركه لحظات النجاة من كارثة غرق باقى أسرته فى سفينة الحُجّاج المتهالكة، عاد يوما من المدرسة منهاراً من العياط، وبعد أن أقنعه أن يستهدى بالله، حكى الولد ما قاله مدرسه عن هروب قاتل أمه وإخوته إلى حيث لا تطاله أيدى الحالمين بالقصاص، يومها لم يصدق الثبات الذى تملكه إزاء ما سمعه، وكيف ألفى بحول الله قوة رهيبة تملأ جوانحه، وضحكة صافية تنير وجهه، ووجد نفسه يحكى لابنه عن عدالة السماء التى لا تترك كل من ينسى أنه يفر من قضاء الله إلى قضاء الله.

«القصاص سيريحه يا بُنَىّ مما هو فيه، هو يتمنى الموت كل ليلة لكى ينهى مأساته، فادع الله مخلصاً أن يطيل فى عمر عذابه، رب العزة أملى له ليزداد إثما ويهرب إلى حيث ما ظنه النعيم المقيم، ليلة والثانية وجد نفسه يصحو من النوم على أصوات استغاثة مخيفة تنبعث فى قصره المنيف، لم يصدق أذنيه عندما وجد الاستغاثات تنبعث من كوب الماء الموضوع إلى جوار سريره، اقترب من الكوب ليتثبت من وهمه فخرقت أصوات الاستغاثة الهادرة أذنيه، رمى الكوب مرتعبا فدوّت أصوات الاستغاثة منبعثة من كل قطرة ماء تناثرت فى الغرفة، جرى إلى الحمام مسرعاً ليغسل وجهه من صدمة الكابوس، فاندلعت أصوات الاستغاثة من مياه الحنفية مرعبة مهيبة هادرة كأنها تطلب رأسه لغرق حتمى عاجل، ومن يومها يا بُنَىّ صار الماء هلاكه، أيام مرت عليه وهو غير قادر على الشرب أو الاستحمام أو الخروج من عزلته فى بلاد لا يفارقها المطر أبدا، يقولون يا ولدى إنه لكى يظل على قيد الحياة يقومون بعصب عينيه وتكميم فمه وسد أذنيه كلما أراد أن يشرب أو يتبول».

الولد نام قرير العين منشرح الصدر، وفى اليوم التالى حكى الحكاية لمدرسه وزملائه، ومعظم النار اندلع من مستصغر الشرر، وفى زمن قياسى امتلأت البلاد بحكايات ملحمية عن ضباط يصحون فى وحشة الليل على كرابيج وهمية تلسع جلودهم، وساسة يشارفون على الاختناق بروائح غاز وهمية، وقضاة أتلفت أعصابهم زفرات المسجونين ظلما، ومحافظين ينامون فى العراء خوفا من انهيار أسقف بيوتهم عليهم.

أما هو فحكايته مثل كل الحكايات عادت إليه كأنها لا تعرفه، فوجد فيها طريق السلوان، ومن يومها أخذ يطوف بها وبما شابهها على الجوامع والكنائس والمقاهى ومحطات القطارات ومواقف الأتوبيسات وكنبات الميكروباصات، وعندما هدد الحاكم وزير داخليته بالإقالة إذا لم ينه مهزلة حكايات القصّاص التى باتت تقض مضجعه، تكفلت وشاية حقيرة بالقبض عليه فى مدرج درجة ثالثة وهو يحكى للناس بين الشوطين قصة النمرود الذى قتلته هاموشة تسربت من أذنه إلى داخل دماغه فأخذ يأمر حاشيته بضربه حتى مات.

اليوم، كل ما بقى من ذكراه ذلك التسجيل اليتيم الذى يتناقله الناس على أجهزة المحمول، والذى التقطه له شخص ما من العاملين فى أجهزة الأمن قبل لحظات من اقتياده إلى مكان ومصير غير معلومين، ضحكته كانت صافية كأنه عريس غارق فى الهناء، ووجهه كان يشع نوراً أو لعلها كانت إضاءة الجهة الأمنية التى كان محتجزا بها، وصوته كان هادراً لدرجة جعلت كل من سمعه يتخيل أنه يكلمه هو دون غيره، كل الذين سمعوه لم يكونوا بحاجة لإعادة الفرجة عليه لكى يحفظوا ما قاله، ألسنتهم مازالت تلهج بكلماته كأنها قيلت للتو «لن تتحقق العدالة فى هذه البلاد، لذلك احلموا بها وهى تحل على الجلادين والقتلة والفاسدين، ثم ارووا أحلامكم لأبنائكم كل ليلة، لعلها عندما يكبرون تنتقل بشكل خرافى من عالم النوم إلى عالم اليقظة».

(عندما نشرت هذه القصة فى هذه الصحيفة فى فبراير 2009 لم يكن لدى الرئيس المخلوع مبارك وقت للقراءة، واليوم وقد أصبح لديه الكثير من الوقت أُعيد نشرها وأهديها إليه بمناسبة أنه أدرك أخيرا أن ربنا كبير، وأهديها إلى كل من يتعاطفون مع الجلادين وينسون الضحايا لعلهم يدركون قبل فوات الأوان أن ربنا كبير).

الثلاثاء، 5 أبريل 2011

تواطؤ أم إهمال الشرطة؟ - عماد الدين حسين

سمعت اللواء عبدالعزيز أمين مدير هيئة استاد القاهرة يقول لأحمد شوبير فى قناة مودرن ليلة السبت الماضى إن نحو ألفى شخص دخلوا استاد القاهرة عنوة صباحا قبل بداية مباراة الزمالك والأفريقى التونسى وكانت معهم الشماريخ ورفضوا الخضوع للتفتيش، وكل ما فعلته هيئة الاستاد هى تحرير محضر فى قسم الشرطة.

مصدر أمنى آخر قال إن خمسة آلاف مشجع اقتحموا إحدى بوابات الاستاد وحطموها وأشعلوا النار فى أحد المدرجات قبل بدء المباراة، وفى الواحدة ظهرا وصل إلى الاستاد 6200 جندى.

إذن مدير الاستاد والشرطة لديهما واقعة محددة خلاصتها أن هناك الآلاف اقتحموا الاستاد وخارجين عن السيطرة، فلماذا أعطى الأمن الموافقة على بدء المباراة فى ظل هذا الجو المتوتر؟!.

لن أتحدث عن الثورة المضادة رغم يقينى بوجودها لكننى أسأل سؤالا بسيطا: لماذا لم يخبر عبدالعزيز أمين وسائر قادة القوات التى كانت مكلفة بتأمين المباراة قيادات الدولة بكل هذه المعطيات حتى يضعوا الجميع أمام مسئولياتهم؟!.

عندما أكون مسئولا أمنيا وعندى معلومات مؤكدة أن هناك أكثر من خمسة آلاف «هائج وخارج على القانون» ثم أوافق على إقامة المباراة فهناك خيار من اثنين إما أن أكون متواطئا رغبة فى إشعال حريق يطول سمعة البلد، أو مقصرا بدرجة خطيرة وفى الحالتين ينبغى إقالة المسئولين فورا ثم محاكمتهم.

هناك كارثة أخرى كشفتها هذه المهزلة وهى التبرير العجيب الذى ساقته الشرطة لعدم تدخلها وهو خشيتها من أن أى صدام بين الشرطة والجماهير قد يقود إلى كارثة، ثم تبرير آخر يقول إن الشرطة ومنذ نجاح الثورة لا تريد الاحتكاك بالمواطنين وتتجنب إغضابهم خوفا من تعاطف بقية الجماهير معهم.

هذه الكلمات صرنا نسمعها كثيرا هذه الأيام.. ولذلك نسأل أصحاب هذه المقولات العجيبة سؤالا بسيطا: إذا كنت رجل أمن ورأيت بلطجيا أو مشاغبا يهدد الآخرين، هل أتدخل واقبض عليه أم أتركه طليقا حتى لا أغضبه؟! وإذا تركته طليقا فلماذا أتواجد فى المكان أصلا ؟!.

خلق الله القانون كى نطبقه على الخارجين عليه، ولو أن كل رجل مكلف بتطبيق القانون امتنع عن التدخل ضد أى خارج على هذا القانون حتى لا يغضبه، فلنزف البشرى لكل اللصوص والبلطجية كى ينزلوا إلى الشارع ويحتفلوا ويفعلوا ما يشاءون، لأن الشرطة لا تريد إغضابهم. لو أن كل شرطى «انكسف» من أى منفلت أو بلطجى، فقولوا على الدنيا السلام.

غياب الأمن أو حضوره بلا فاعلية صار أمرا يدعو إلى الريبة ويطرح تساؤلات كثيرة عن وجود قطاعات داخله تريد إفشال الثورة بأى ثمن.

قد نصدق ولو نظريا أن ما حدث فى استاد القاهرة كان عفويا وتنفيسا عن احتقان، أو خروج أسوأ ما فى بعض المصريين، لكن هل الموقف الأمنى ليلتها كان بريئا.. أشك كثيرا والأيام بيننا !!

أخشى ما أخشاه أن قيادات فى الداخلية، ومشبوهين طلقاء يريدون أن يطرحوا علينا الخيار التالى:

إما أن نقبل بطريقة الشرطة وممارساتها القمعية قبل 25 يناير أو نتحمل طريقتها «العاطفية والرومانسية» فى تعاملها مع المجرمين والبلطجية بعد الثورة.

على هؤلاء أن يفكروا فى الخيار الثالث: نريد شرطة تحترم حقوق الإنسان وتطبق القانون بحزم على كل الخارجين عليه.. فقط.. هل هذا كثير؟!.

ارفع رأسك.. فأنت ضابط شرطة - علاء الأسواني

هذه واقعة غريبة تستحق التأمل

منذ أيام، اعتصم العشرات من ضباط الشرطة فى الإسكندرية احتجاجا على محاكمة ثلاثة من زملائهم بتهمة قتل المتظاهرين، تكرر نفس الأمر فى عدة محافظات حتى إن 48 ضابط شرطة فى السويس تقدموا باستقالاتهم لنفس السبب.. هناك إذن حالة تذمر بين ضباط الشرطة احتجاجا على محاكمة زملائهم بتهمة قتل المتظاهرين.

لقد سقط من المصريين أثناء الثورة أكثر من 820 شهيداً وأكثر من 1200 مواطن فقدوا عيونهم بالرصاص المطاطى بالإضافة إلى آلاف المفقودين الذين لا يعرف أهلهم حتى الآن إن كانوا شهداء أو معتقلين فى أماكن مجهولة.. هذه الخسائر الإنسانية الفادحة لم تحدث فى حرب مع أعداء أجانب وإنما ارتكبها ضباط شرطة مصريون فى حق مواطنين مصريين مثلهم، بل إن ضابطا واحدا اسمه وائل الكومى من الإسكندرية متهم بقتل 37 شهيداً بيديه..؟!

لماذا يغضب إذن ضباط الشرطة من تقديم زملائهم إلى محاكمة عادلة؟!.. هؤلاء الضباط المحتجون هل يقبل أحدهم مجرد خدش فى جسد ابنه أو ابنته..؟..

لماذا لا يتفهمون موقف أهالى الشهداء الذين يطالبون بالقصاص العادل من قتلة أبنائهم..؟! الإجابة عن هذه الأسئلة تستدعى فهم الثقافة التى تربى عليها ضابط الشرطة فى نظام مبارك..؟!

فى فيديو شهير تسرب إلى الإنترنت، وقف مدير أمن البحيرة السابق يتحدث إلى ضباطه فقال لهم:

ـــ نحن الذين نحمى المصريين. نحن أسيادهم. من يمد يده على سيده ما جزاؤه..؟

هنا أجاب الضباط الواقفون فى نفس واحد: «نقطع له يده..»

هذا الحوار المؤسف يدل على ثقافة رجل الشرطة فى عصر مبارك. ضابط الشرطة يحس بأنه أعلى مقاما من المواطنين مهما تكن وظائفهم وشهاداتهم الدراسية، وهو يعتبر نفسه فوق القانون يستطيع أن يفعل فى الناس ما يشاء.. يضرب ويعتقل ويعذب وحتى إذا قتل فإنه غالبا ما يفلت من العقاب أو يطبق عليه عقاب مخفف جدا..

التعميم هنا خاطئ وظالم بالطبع لأن هناك الألوف من ضباط الشرطة يؤدون واجبهم بإخلاص فى ظروف صعبة وبرواتب لا تكفى عادة لتلبية متطلبات الحياة، لكن ضباطا كثيرين من الأمن الجنائى وأمن الدولة مارسوا ضد المواطنين جرائم بشعة كلها موثقة بتقارير محلية ودولية. ولابد هنا أن نتساءل: كيف يتحول ضابط الشرطة من حارس للقانون إلى خارج عليه؟

ما الذى يجعل الشاب الرياضى المتفوق الذى يلتحق بكلية الشرطة يتحول بعد سنوات قليلة إلى ضابط شرس يضرب الناس ويعذبهم؟!.. تؤكد دراسات علم النفس أن أى شخص مهما كان وديعا أو طيبا فى الحياة العادية، إذا التحق بمؤسسة أمنية قمعية من الممكن أن يتحول إلى جلاد يعذب ويقتل إذا توفرت له أركان ثلاثة:

1- الطاعة: عندما يجد الضابط أن الطاعة العمياء للأوامر تشكل النظام السائد فى المؤسسة فإنه سرعان ما يذعن ويكون على استعداد لتنفيذ الأمر مهما بلغت وحشيته.

2- المسايرة: عندما يجد الضابط نفسه وسط مجموعة من زملائه تمارس القمع بانتظام فإنه عادة ما يسايرهم ويفعل مثلهم لأن رفض القمع والتعذيب يكون عندئذ موقفا يفوق قدراته.

3- إسقاط الصفات السلبية على الضحايا:

لابد للضابط الجلاد أن يقنع نفسه بأن ضحاياه متآمرون على الوطن أو مخربون أو عملاء لجهات أجنبية. عندئذ سوف ينظر إلى الجرائم التى يرتكبها باعتبارها واجبا ضروريا لحماية الوطن.. هذا التبرير النفسى للقمع ربما يساعدنا على فهم الأزمة النفسية التى يمر بها ضباط شرطة كثيرون الآن بعد الثورة. إن غياب الشرطة وتقاعس كثير من الضباط عن حفظ الأمن قد يكون نتيجة مؤامرة من عناصر النظام القديم لإحداث الفوضى، لكنه يعكس أيضا بالتأكيد حالة من المشاعر السلبية عند هؤلاء الضباط من نجاح الثورة..

ضباط شرطة كثيرون يرفضون العودة إلى العمل وكثيرون عادوا إلى مكاتبهم ولا يريدون أن يعملوا لأن لديهم إحساساً بأنهم أُهينوا وخُدعوا ووقع عليهم ظلم بيَّن.. إن الثورة قد قلبت كل المفاهيم التى تربوا عليها رأساً على عقب.. بعض الضباط اعتقلوا وعذبوا من يعتبرونهم مخربين وعملاء.. فإذا بهؤلاء المخربين ينتصرون ويُسقطون نظام حسنى مبارك ويجبرونه على التنحى.. بل إن ممارسة التعذيب لم يعد ينظر إليها باعتبارها مهمة ضرورية لحماية الوطن وإنما هى فى نظر الثورة جريمة مشينة لابد من محاكمة مرتكبيها..

هذه المشاعر السلبية التى تنتاب ضباط الشرطة الآن ليست فى صالح مصر ولا فى صالح الثورة. منذ أيام ذهب حبيب العادلى، وزير الداخلية الأسبق، إلى جلسة المحاكمة على الجرائم العديدة التى ارتكبها ضد المصريين فرأينا احتياطات أمنية غير مسبوقة لضمان سلامته.. سيارات مصفحة وحرس وجنود أمن مركزى بل إن ضباط الشرطة داخل قاعة المحكمة صنعوا من أجسادهم حائطا بشريا حتى يمنعوا الصحفيين من تصوير العادلى أو حتى رؤيته وهو فى قفص الاتهام.. كأن سلامة حبيب العادلى الذى قتل المصريين أهم عند هؤلاء الضباط من بلادهم التى تركوها لمدة شهرين مستباحة نهبا للبلطجية والمساجين الجنائيين الذين تم إخراجهم من السجون لترويع الناس..

فى نفس اليوم فى مباراة كرة القدم بين نادى الزمالك والنادى التونسى، وفقاً لشهادة الشهود، أهمل ضباط الشرطة واجبهم فى تأمين الملعب وسمحوا لعشرات البلطجية بالدخول بأسلحتهم البيضاء بل فتحوا لهم البوابات لينزلوا إلى الملعب ويعتدوا على اللاعبين. إن تسجيل الفيديو لهذه الواقعة المحزنة يكشف أن ضابط الشرطة الموجود فى الملعب لم يبذل أى مجهود لردع البلطجية..

التناقض بين تصرف الضباط فى الحالتين يحمل معنى محزنا بقدر ما هو حقيقى: مازال بعض ضباط الشرطة يعتبرون حبيب العادلى كبيرهم مهما ارتكب من جرائم ويدينون له بالولاء الكامل ولا يسمحون أبداً بأن يظهر وهو فى قفص الاتهام لأن أى مساس بصورته فى اعتقادهم يؤثر على هيبتهم. فى نفس الوقت فإن بعض ضباط الشرطة تتملكهم الآن روح الانتقام من الثورة فيتقاعسون عن أداء واجبهم حتى تعم الفوضى فيكره المصريون النظام الجديد ويترحموا على أيام مبارك.. لقد سقط نظام مبارك بعد أن أوصل مصر إلى الحضيض فى كل المجالات وترك لنا إرثاً من المشكلات المعقدة التى سيستغرق حلها وقتا وجهدا.

من أصعب هذه المشكلات علاقة المصريين بجهاز الشرطة التى لن تعود إلى حالتها الطبيعية فى رأيى إلا من خلال تنفيذ الخطوات التالية:

أولا: إجراء محاكمات عادلة وسريعة لكل ضابط شرطة مهما كان منصبه أو موقعه، إذا كان تورط فى التعذيب أو القتل أثناء الثورة المصرية أو قبلها.. حتى يتم تطهير صفوف الشرطة بالكامل عندئذ سيتأكد للمصريين أن الضباط الذين احتفظوا بمناصبهم شرفاء ومحترمون.

ثانيا: إلغاء جهاز أمن الدولة الإجرامى الذى لم يقدم شيئا مفيدا واحدا لمصر خلال عقود.. إذ تلخصت مهمة الجهاز فى قمع المصريين والتجسس عليهم وتعذيبهم وهتك أعراضهم وتخريب الحركة الوطنية المصرية عن طريق المؤامرات التى ينفذها عملاء الجهاز..

مع احترامى الكامل لوزير الداخلية اللواء منصور عيسوى وثقتى فى نزاهته وكفاءته إلا أننى لا أوافقه على الطريقة التى تعامل بها مع جهاز أمن الدولة. لقد أنشأ الوزير عيسوى جهازا جديدا اسمه الأمن الوطنى ثم استعان بضباط أمن الدولة القدامى فى الجهاز الجديد.. ماذا نتوقع من ضباط مارسوا التعذيب لسنوات طويلة؟!..

هل يمكن أن يقتنعوا فجأة بحقوق الإنسان ويحترموها؟.. إن مصر الثورة لا تحتاج إلى أمن الدولة لأنها لا تحتاج إلى تعذيب مواطنيها وهتك أعراضهم. إن الأجهزة القمعية لا توجد إلا فى أنظمة الاستبداد أما فى البلاد الديمقراطية فهناك دائما جهاز لجمع المعلومات بطريقة قانونية وما إن تتوافر لديه أدلة كافية ضد أى مواطن حتى يقدمها إلى جهة التحقيق وهى النيابة العامة.. هذه الوظيفة تستطيع إدارة الأمن القومى فى المخابرات العامة أن تقوم بها بكفاءة تامة. إن التخلص نهائيا وإلى الأبد من مباحث أمن الدولة سيعيد إلى المصريين ثقتهم الكاملة فى جهاز الشرطة.

ثالثا: تغيير الثقافة الأمنية بالكامل.. بالرغم من وجود غالبية من ضباط الشرطة الشرفاء فإن الثقافة التى نشأوا عليها نادرا ما تحترم حقوق الإنسان، وعادة ما تعجز عن تحقيق الأمن إلا بواسطة القمع.. فى ندوة عقدتها جريدة «الأهرام» مؤخرا من أجل تحقيق المصالحة بين الشعب والشرطة قال أحد الضباط:
«إن إقصاء ضباط أمن الدولة أمر مؤسف لأنهم من خيرة ضباط الشرطة وأكثرهم تميزا فى المهارات والأداء العام».

لا أعرف عن أى مهارات يتحدث حضرة الضابط إلا إذا كان ضرب الناس وتعليقهم كالذبائح وصعقهم بالكهرباء فى أماكن حساسة فى نظر سيادته مهارات عظيمة. هذا الكلام نموذج للثقافة الأمنية السائدة فى نظام مبارك التى تعتبر أعراض الناس وكرامتهم مباحة تماما مادام الاعتداء عليها يحقق الأمن للنظام.. منذ أيام ذهب معاون المباحث فى مدينة الباجور لضبط شخص محكوم عليه بالسجن ثلاث سنوات فلم يجده فى منزله وعندئذ قبض على زوجته واصطحبها معه ولما اعترض والد المتهم أطلق الضابط عليه النار فأرداه قتيلا.. صحيح أنه تم القبض على الضابط وأمرت النيابة بحبسه لكن تصرفه يعكس نفس الثقافة الأمنية القمعية القديمة التى يجب أن نتخلص منها بعد الثورة.

رابعا: بعد أن يتم تطهير جهاز الشرطة بالكامل يجب إطلاق مبادرة شعبية شاملة من أجل المصالحة بين الشرطة والشعب يقوم المصريون خلالها بزيارات ودية إلى أقسام الشرطة التابعين لها للتعرف على الضباط وأفراد الشرطة وتجديد الثقة فيهم. ويذهب مواطنون متطوعون للمساعدة فى تجديد أقسام الشرطة المحترقة، ويزور ضباط الشرطة أهالى شهداء الثورة لكى يتأكد المعنى أن ضباط الشرطة ليسوا جلادين ولا قتلة وإنما هم مصريون محترمون يعملون على توفير الأمن للوطن.
عندئذ سيعود ضباط الشرطة إلى أعمالهم، ليس كأسياد للمصريين وإنما باعتبارهم مواطنين يتساوون مع غيرهم فى الحقوق والواجبات ويشتركون معنا فى بناء دولة مصر الحديثة.. دولة العدل والحرية.
الديمقراطية هى الحل