الأحد، 30 أكتوبر 2011

قبل أن يكون حقاً.. «آخر كلام» - يسري فودة

بادرنى اللواء إسماعيل عتمان باتصال هاتفى بعد ظهر الثلاثاء ١١ أكتوبر الماضى، امتد أكثر من ساعة، حمل لى أثناءها تقريباً كل ما جاء، بعد ذلك بأربع وعشرين ساعة، فى المؤتمر الصحفى الذى شرح فيه المجلس العسكرى وجهة نظره فى أحداث الأحد الدامى.. أحداث ماسبيرو.

كان الرجل، كعادته، بسيطاً ودوداً، وبين يديه ما بدا عتاباً: «إحنا زعلناك فى حاجة يا راجل؟».. لم أفهم تماماً مقصده، وإن كان ذهنى أخذنى لأول وهلة إلى حلقة الليلة السابقة من «آخر كلام» التى، فى سياقها، فرضت الحقائق نفسها إدانة لموقف ماسبيرو من أحداث ماسبيرو.

ورغم أن حديث أى مصدر عن أى شىء مع أى صحفى قابل للنشر، إلا إذا طلب المصدر بصورة واضحة عدم النشر، فإننى - إمعاناً فى التيقن - أطبق القاعدة العكسية فى معظم الوقت: إن كل محادثة غير قابلة للنشر إلا بإذن. ومن ثم سأتعرض هنا فقط لما اختار اللواء عتمان، من حديثه معى أثناء ذلك الاتصال، أن يكرره بنفسه على الملأ فى مناسبات لاحقة.

كان من الواضح أن الحديث وصل بنا بعد جدال طويل إلى طريق مسدود، فهو يحيى تغطية تليفزيون الدولة بلا تحفظ، وأنا أنتقدها بلا تحفظ. هو يرى أن التليفزيون فعل شيئاً لم يفعله قبل ذلك عندما تقرر له أن يبث ما كان يحدث على الهواء مباشرة. وأنا أرى - رغم أن هذا صحيح، على الأقل فى جانب من جوانب الصورة - أن ما صاحب الصورة من تعليقات، شفوية ومكتوبة، كان العنصر الحاسم، وإلا لماذا اقتحمت الشرطة العسكرية برشاشاتها فى مشهد درامى استوديوهات قناتين أخريين لا تخضعان لسيطرة ماسبيرو لمنعهما من بث المشهد نفسه على الهواء؟

هناك مبدأ صغير فى صناعتنا يقول: «إن كنت تخشى من الكاميرا فلابد أن لديك ما تخشاه». وهناك مبدأ كبير فى الدنيا وفى الدين يقول: «كل ابن آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون». وبين هذا وذاك مبدأ يساعدنا على الاستمرار فى العيش معاً: إن الاختلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية. لكن الاختلاف فى هذه الحالة هو فقط أحد تجليات فجوة فى الرؤية كانت قد بدأت فى الاتساع على مدى الشهور القليلة الماضية.

فجوة فى الرؤية

اجتمع عدد من الأسباب على إفساح المجال أمام هذه الفجوة كى تتعمق، من أهمها: أولاً، أن الحياة المدنية تسير أفقياً فى إطار من الأخذ والرد، بينما تسير الحياة العسكرية رأسياً فى إطار من الأمر والطاعة. وثانياً، أن رسالة المجلس العسكرى لم تصل إلى الناس، ليس لنقص فى الخبرة بالشؤون المدنية وحسب، بل لأن الرسالة تفقد نصف مفعولها قبل أن تبدأ إذا لم يستطع مرسلها سلفاً تحديد الجمهور المستهدف بدقة.

وأكاد أجزم أن كل مسؤول عسكرى تحدث إلينا حتى الآن كان موزعاً، فى ذهنه وفى لسانه، بين جمهور الشارع وجمهور الثكنات. ولا يمكن انتظار تأثير فاعل لرسالة واحدة تتوجه إلى جمهورين مختلفين إلى هذا الحد. ومن ثم أزعم أن هذه رسالة مفقودة حتماً فى ثنايا الجمع بين مستحيل النقيضين: لين الأخذ والرد مع المدنى الذى يتوقع أحياناً اعتذاراً عن خطأ، من ناحية، وحزم الأمر والطاعة مع العسكرى الذى يتوقع دائماً أن قائده منزه عن الخطأ، من ناحية أخرى.

و ثالثاً، أن تعاقب الأيام والأسابيع والشهور، بينما تمر الأطراف جميعها بعملية تعلم قاسية فى معظم الأحيان، ألقى بنا جميعاً - ومن بيننا المجلس العسكرى - إلى حالة من الإرهاق الجسدى والذهنى والعصبى كانت لها نتائج. من بين هذه النتائج، فى حالة المجلس العسكرى، جنوحه إلى تغيير مسار التعاطى مع الموقف، الذى كان قد سلكه فى البداية، إلى مسار يبدو له أقصر وأكثر سهولة، وربما أيضاً ساهمت طبيعته العسكرية البحتة فى هذا الجنوح.

تجليات مسار جديد

كان من تجليات هذا المسار، أولاً، نشوء جفوة بين المجلس العسكرى من ناحية والنخبة الأقرب إلى ضمير الوطن من الساسة والمثقفين والنشطاء والإعلاميين بعد مرحلة ثرية واعدة من الحوار، المعلن وغير المعلن. وكان لابد أن تنشأ عن هذه الجفوة فجوة، وهى فجوة لا يمكن أن تبقى فارغة، وهى فجوة لا يملؤها عادةً إلا المنافقون وأصحاب المصلحة الخاصة. وهو ما أضاع على المجلس «مستشاراً» صادقاً وإن كان متعباً، وأكسبه «مستشاراً» مريحاً وإن كان لا يمثل إلا نفسه.

وثانياً، ساهم هذا فى تشكيل طريقة جديدة قديمة تؤمن بأنه «إذا لم تكن الكاميرا هناك فإن شيئاً لم يحدث».. طريقة تبدو أقصر وأسهل تؤمن بمعالجة الأمور إعلامياً وحسب، لأن الإعلام فى نظرها يمكن أن ينفى واقعاً موجوداً على الأرض كما يمكن أن يخترع واقعاً لا وجود له، وهكذا تتبخر المشاكل. ومن نوافل القول أنها نظرية أكل عليها الدهر وشرب، والأهم من هذا أنها أثبتت ضررها بجميع أطراف المجتمع، حاكماً ومحكوماً.

الجديد هذه المرة، والمثير للمفارقة فى الوقت نفسه، أن «الكاميرا كانت هناك»، فى أحداث ماسبيرو وفى غيرها، وكان علينا رغم ذلك أن نقتنع بأن شيئاً لم يحدث، وبأنه إن كانت هناك مشكلة فهى فى الواقع ليست تلك التى تراها بأم عينيك الآن وتسمعها بأبى أذنيك.

عبرة «قناة الجزيرة»

هكذا يراد لنا أن نعود إلى الوراء خمسة عشر عاماً على الأقل عندما ظهرت قناة الجزيرة لأول مرة، وقتها اضطررنا إلى المرور بثلاث مراحل قبل أن تبدأ الفكرة فى الوصول إلى أذهان الأنظمة العربية. كانت المرحلة الأولى صدمة مباشرة أسفرت عن تحرك سياسى مكثف اتخذ أشكالاً مختلفة، من بينها إرسال الوزراء والمبعوثين إلى الدوحة «لتعقيل» أميرها الجديد، ثم سحب السفراء منها للضغط عليه، ولما لم تفلح هذه المحاولات انتقلنا إلى المرحلة الثانية، وهى مرحلة تكسير العظام، والضرب تحت الحزام أحياناً، ومن تجلياتها إغلاق مكاتب الجزيرة وتوقيف مراسليها وشن حملات مسمومة فى وسائل الإعلام المحلية والدولية، ولما لم تفلح هذه ولا تلك انتقلنا إلى المرحلة الثالثة، وهى مرحلة «إن لم تستطع أن تغلبهم انضم إليهم». وينبغى أن نضيف إلى هذا العنوان جملة أخرى: «ولكن لا تصدق نفسك كثيراً».

ورغم ذلك، فقد كان وصول الأنظمة العربية، ولو مضطرة صاغرة غير صادقة، إلى هذه المرحلة الثالثة إيذاناً بانطلاقة أزعم أنها علامة فارقة ليس فى تاريخ الإعلام وحسب، بل فى الحياة اليومية للمواطن العربى من المحيط إلى الخليج. ذلك أن الناس عادةً لا تفتقد ما لا تعرف. الآن هم يعرفون، لخمس عشرة سنة يعرفون، والآن هم إذا فقدوا سيفتقدون، وحين يفتقدون سيفعلون كل ما فى وسعهم للحصول على ما فقدوه بأى وسيلة كانت. إن تجربة الحرية، بمعنى من المعانى، تشبه تجربة الموت. نعم، يمكنك أن تزور الموت، ولكن لا يمكنك الرجوع. وكذلك الحرية.

لا آل سعود بكل ما أوتوا من مال ومن نفوذ، ولا نظام مبارك بكل ما أوتى من حيل ومن بلطجية، ولا الأنظمة العربية كلها مجتمعة استطاعت أن تقف فى وجه هذا الطوفان الذى يمكن تلخيصه فى كلمتين: حتميات العصر. لكن فى مصر الآن من يبدو أنه لم يستوعب هذا الدرس الكبير. فى مصر الآن من يبدو أنه لا يعلم أن فى استطاعة أى هاوٍ إطلاق خمس قنوات فضائية من جهاز كمبيوتر متنقل من غرفة النوم، فى مصر الآن من يبدو أنه لا يفهم أن رسائل «بى بى إم» القصيرة أشعلت خمس مدن فى بريطانيا فى لحظة واحدة قبل أسابيع قليلة. فى مصر الآن من لا يدرك أن فى مصر الآن جيلاً جديداً ملماً بحتميات العصر متذوقاً حلاوة الإرادة والحرية. فى مصر الأن، ببساطة، من لم يدرك بعد أن فى مصر ثورة.

هذا هو المناخ العام الذى بدأ يفرض نفسه من جديد على مدى الشهور القليلة الماضية منذ إصبع اللواء محسن الفنجرى، وقد كان له ما كان من التقدير فى قلوب أسر الشهداء وفى قلوبنا جميعاً، مروراً بما نعرفه جميعاً من إيقاف واستدعاء وإنذار وتخويف وتشويه وتدجين وإغراء ومحاباة، وصولاً فى نهاية المطاف إلى اقتحام وغلق وإرهاب بالرشاشات على الهواء. ويكون الأمر سهلاً أمام حقيقة أن مصر موزعة إعلامياً بين ما يتبع الدولة، وهو فى قبضة الحاكم بصورة مباشرة، وما يتبع القطاع الخاص، وهو أيضاً فى قبضته وإن كان بصورة غير مباشرة مشوقة فى كثير من جوانبها.

هشاشة الإعلام الخاص

تسمح الأنظمة العربية، خاصة فى مصر، لنفسها بهذا الافتراض الذهنى: «أنك إذا استطعت أن تجمع مالاً ونحن فى الحكم فأنت مدين لنا»، شىء أشبه بإتاوة فتوة الحارة، وإن كانت إتاوة فى دفتر مفتوح إلى ما لا نهاية يدفعها فى الواقع غلابة الحارة، ولأن علاقة أصحاب السلطة بأصحاب المال أكثر تعقيداً من هذا بكثير، خاصة فى مصر، فإننى لا أرى أن من واجبى أن أدافع عن هذا ولا عن ذاك وأنا لا أدرى تماماً دهاليز العلاقة. وإنما - مثلى مثل كثير من زملائى - يعنينى فقط ما يمس قدرتى كمواطن وكإعلامى على استثمار فرصة أتيحت أمامنا عندما فرضت «حتميات العصر» على السلطة أن تسمح ببعض النوافذ الإعلامية من خلال مجموعة من رجال الأعمال. ومثلى مثل كثير من زملائى، لا يهمنى فى هذا «الفرح» كله إلا أن أكون قادراً على القيام بواجبى أمام الله وأمام الوطن.

يفرض هذا الواجب، أول ما يفرض، على النفس اعترافاً مبدئياً: أننا أمام نظام إعلامى هش، تبلغ هشاشته فى بعض الأحيان حداً مضحكاً مبكياً فى آنٍ معاً. وهو أيضاً نظام يجعل مما هو مفترض أن يكون الحد الأدنى من الأمانة المهنية - مثل تغطيتنا لأحداث جمعة الغضب يوم ٢٨ يناير - عملاً أقرب إلى أعمال الانتحار الجماعى على قارعة الطريق. كما يفرض هذا الواجب على النفس اعترافاً آخر: أننا إذا كنا فى الإعلام الخاص متضررين من هشاشة الوضع، فإن زملاءنا فيما يعرف بإعلام الدولة ضحايا.

وبطبيعة الحال، فإن جزراً من ألوان مختلفة توجد فى داخل كل من هذين النمطين بما يصعب معه التعميم. لكننا نتحدث عن نمطين عريضين على أى حال، وما يهمنا هنا هو أن المجلس العسكرى بقى قريباً من الشارع ما بقى قريباً من جزر بعينها فى النمطين، خاصة فى نمط الإعلام الخاص. لكن هذا الإعلام الخاص تحول فى إطار المناخ المشار إليه سلفاً، من وجهة نظر المجلس العسكرى، إلى شىء أقرب إلى العبء منه إلى الذخر، أو حتى منه إلى مجرد المعبر. وترافق ذلك مع وتيرة متصاعدة من الضغوط التى اتخذت أشكالاً مختلفة وأساليب متنوعة، بعضها موروث وبعضها الآخر مبتكر، وإن كانت جميعاً تعمد إلى توفير ما يكفى من الدوافع لدى الإعلامى فى نهاية السلسلة كى يتطوع بممارسة المزيد من الرقابة الذاتية.

تفرق إيه يعنى؟

ماذا إذن حدث تحديداً فأدى إلى إلغاء حلقة «آخر كلام» مع الكاتبين الكبيرين، علاء الأسوانى وإبراهيم عيسى؟.. يسألنى الناس. بعد هذا كله يسألنى الناس؟ ورغم تقديرى الشديد لشغف الناس بالتفاصيل فإننى أشعر أحياناً برغبة كوميدية سوداء فى أن أخبط رأسى فى الحائط وأنا أصيح: «تفرق إيه يعنى؟.. تفرق إيه يعنى لو أن زيداً، مش عمرواً، هو الذى اقترح؟ تفرق إيه يعنى لو أن تليفوناً، مش اجتماعاً، كان السبب؟ تفرق إيه يعنى لو أن شبرا، مش مصر الجديدة، كانت مسرحاً للحديث؟»، الذى يفرق عندى، أولاً، أن يدرك الناس حقيقة أن وقف برنامج كهذا لم يكن قراراً سهلاً، وثانياً، أن المشكلة الرئيسية ليست بالضرورة فى أشخاص وإنما فى نظام كامل.

وكى تستريح القلوب، دعونى أبسط أمامكم هذه الحقائق: أولاً، أنا الذى اتخذ قراراً بوقف الحلقة وتعليق البرنامج إلى أجل غير مسمى. ثانياً، أننى اتخذت هذا القرار لأن ثمة ما دفعنى إليه، وما دفعنى إليه هو إدراكى حقيقة أن ثمة حداً أقصى لممارسة الرقابة الذاتية، وإلا فقد الرجل احترامه لذاته ولجمهوره ولمهنته ولوطنه. وثالثاً، أن الضغوط لم تأت من إدارة قناة «أون تى فى»، وإنما من المجلس العسكرى، بل إن إدارة القناة، ممثلة فى الزميلين ألبرت شفيق ويوسف شكرى، بقيت حتى آخر لحظة تحاول إقناعى بالاستمرار، أمام إصرار منى على تجنيب القناة حرج ضغوط إضافية. رابعاً، أن إصرارى على قرارى لم يكن الهدف منه أبداً إثبات بطولة فارغة أو إلقاء «كرسى فى الكلوب». خامساً، أننى كنت فى حاجة إلى عزل نفسى عن القناة، ولو مؤقتاً، كى لا تتحمل القناة عبء ما قررت أنه صار من واجبى أن أتعرض له كمواطن وكإعلامى.

وأخيراً، لم يكن لقرارى هذا أى علاقة من قريب أو من بعيد بظهور عضوى المجلس العسكرى، اللواء محمد العصار واللواء محمود حجازى، فى برنامج غير برنامجى أو على قناة غير قناتى كما أراد البعض أن يشوه الهدف، عن حسن نية أو عن غير ذلك. فعلى حد علمى أنا الصحفى الوحيد الذى استأذن فى إلغاء مشروع حلقة كان متفقاً عليها مع أعضاء فى المجلس العسكرى، قبل ذلك، عندما أدركت أنها لن تخضع للحد الأدنى مما أراه شروطاً مهنية، مع كامل احترامى لأعضاء المجلس واعتزازى بالزميلين إبراهيم عيسى ومنى الشاذلى. أنا أيضاً الذى التمس من «أون تى فى» أن تذيع حلقة معادة من برنامجى الذى كان سيذاع على الهواء فى نفس توقيت لقاء المجلس العسكرى مع «منى» و«إبراهيم»، بل إننى دعوت أصدقائى على «فيس بوك» و«تويتر» لمتابعة هذا اللقاء، لأنه ببساطة حدث يعلو فوق أى منافسة.

أما فيما يخص اتصال اللواء إسماعيل عتمان على الهواء، بعد ذلك بيومين، بزميلتى العزيزة ريم ماجد، فإن ما بينه وبيننا، نحن الإعلاميين، من علاقة مهنية تكسوها بساطة الريف المصرى بما فيه من أصالة وعشم، يسمح لى بأن أبعث إليه بهذه الابتسامة التى لم أستطع مقاومتها عندما شعرت كأننى «عيّل تايه» وهو ينادى عبر الأثير: «عُد يا يسرى.. نحن فى حاجة إليك». ولكن، من منطلق أكثر جدية، لم أكن أتمنى أن يلخص المسألة برمتها فى احتمال وجود خلاف بينى والقناة، بينما يستبعد تماماً، ولو من باب الاحتمال، اختلافاً فى وجهات النظر أو فى تقدير المواقف مع المجلس العسكرى. وهذا، فى حد ذاته، مؤشر آخر إلى طبيعة تلك الفجوة التى أشرنا إليها سلفاً فى هذا المقال.

خلاصة القصة

ببساطة، كنت أتمنى - ومازلت أتمنى - أن يفتح اضطرارى إلى خنق برنامجى بيدىّ باباً إلى غرفة هادئة مضيئة لها نافذتان. النافذة الأولى تطل على المجلس العسكرى بمجموعة من الرسائل من أهمها، أولاً، أنه لن يحمى الوطن، خاصة فى أوقات الأزمات، شىء قدر إعلام حر صادق قوى، ولنا فى الفارق بين إعلام ٦٧ وإعلام ٧٣ عظة كبرى، وأن لهذا الإعلام دوراً مهماً، إن لم يكن حاسماً، فى هذه اللحظات وفى مستقبل قريب واعد منذر فى آنٍ معاً. وثانياً، أن مصر الآن لا تتحمل غياب القدرة على استيعاب درس إعلامى ضخم لم يستطع الرئيس المخلوع استيعابه فى زمنه، وأنه سقط فى نهاية المطاف لأنه فضل الطريق الأسهل، ولأنه آمن باللافعل. وثالثاً، أن الوسائل المتاحة فى عالم اليوم، أمام جيل صنع ثورة، لا تعد ولا تحصى، وخير لنا جميعاً أن نحتضن «حتميات العصر» قبل أن تدوس هى علينا بامتهان.

أما النافذة الثانية فتطل علينا - نحن الإعلاميين - بفرصة للتأمل. نحن أصحاب الإعلام، ولا أحد غيرنا صاحبه. لا السلطة ولا حتى صاحب القناة أو الجريدة، نحن أصحابه، هذه حقيقة بسيطة بديهية لكنها تتوه منا كثيراً وسط الزحام. ومن واجبنا، تجاه أنفسنا وتجاه الوطن، وفوق هذا وذاك، تجاه الله، أن نقول الحق ولو كان الثمن أرزاقنا وأعناقنا. أقارن زماننا - وفيه ما فيه من بدائل لا حصر لها تجعلنا محظوظين مدللين - بأزمنة جاهد فيها أسلاف لنا ولم يكن أمامهم من بديل. أقارن ما نحن فيه بما أحاط محمود عوض، على سبيل المثال، من ظلام، فلا جوجل ولا إيميل ولا بلاك بيرى ولا آيباد ولا هاتف ولا فضائيات ولا غيره، وأرى نتاج يديه فى الستينيات والسبعينيات متفوقاً بصورة مدهشة على كثير من نتاج اليوم. أراه وقد أحاط به ما أحاطه من ظلم فى الثمانينيات والتسعينيات، من السلطة ومن منافقيها، فلم يكن ذلك إلا وقوداً إضافياً ملك به زمام أمره بيديه فاحتفظ باحترامه لذاته ولجمهوره ولوطنه فانتصر، وحين مات كان قد عاش.

هذا إعلامنا ونحن أصحابه، ومما يبعث فى النفس أملاً أن بعضاً منا بدأ يدرك ذلك عملياً فبدأ التفكير فى الأيام القليلة الماضية فى مجموعة من المبادرات، من بينها مبادرة لإطلاق قناة يملكها الشعب، عن طريق الاكتتاب المباشر، يشارك فى حمل لوائها الزميل العزيز بلال فضل مع مجموعة من الزملاء المحترفين الوطنيين. ومبادرة أخرى، أشارك مع الزملاء فى حمل لوائها مثلما أشارك فى مشروع القناة، تهدف إلى خلق جبهة وطنية دائمة لحماية الإعلام الحر، وتكون لها باتفاق أعضائها من الإعلاميين أسنان تضمن هذه الحماية. هذه المبادرات ليست موجهة ضد أحد، بل إن من شأنها شد أزر ما لدينا من إيجابيات ومن بدائل، ومساعدة الجميع على استيعاب حقيقة أن عصراً جديداً لا تصلح معه الأساليب القديمة.

هل أعود بعد هذا إلى «آخر كلام»... نعم أعود.

انتهى

الاثنين، 24 أكتوبر 2011

مع الشهداء ذلك أفضل جدًا - علاء عبد الفتاح

الخميس 20 أكتوبر 2011

يومان قضيناهما فى المشرحة، يومان مع جثامين تناضل للاحتفاظ بلقب شهيد، تناضل ضد نظام مبارك كله؛ ليس فقط عسكر مبارك الذين دهسهم، ولا إعلام مبارك الذى سحب منهم لقب شهيد ونعتهم بالقتلة، ولا نيابة مبارك التى تملصت من البحث عن حقهم، بل ناضلت الجثامين لتحتفظ ببهاء يليق بالشهادة فى مشرحة مستشفى حكومى فقير منعدم الإمكانيات. ناضلت ضد خرافات عصر مبارك القائلة إن التشريح تمثيل بحرمة الميت لا انتصارا لحقه، ناضلت ضد سطوة فقهاء وقساوسة السلطان القائلين إن الباحث عن العدالة فى الحياة الدنيا وكأنما تخلى عنها فى الآخرة، ناضلت ضد طائفية مبارك التى تجعل فقير يرى فى فقير مثله عداوة ليلتهى عمن سرق لقمة عيشهما.

يومان برفقة موت رحيم وخجل لا يرحم، لماذا يا ربى أغلب شهدائنا فقراء؟ كيف ميزت المدرعة والبندقية؟ الدم واحد والقبر واحد ومع ذلك خذلنا الشهادة مرة تلو الأخرى.

مصر معجبانية وبتختار أحلانا، ومينا دانيال زين ما اختارت. لولاه ما انتصرنا فى المشرحة.


طوبى للضعفاء

جاءوا للمستشفى بالمئات بحثا عن أجساد جريحة لعلاجها وأجساد مقتولة لدفنها، جاءوا للمستشفى بحثا عن مأوى فى ليلة تجسدت فيها كل مخاوفهم، جاءوا للمستشفى بحثا عمن يشاركهم الغضب، بحثا عن قوة فى العدد. جاءوا كقطيع الكنيسة. وحاصر المستشفى معتدون مدنيون (ربما هم المواطنون الشرفاء الذى يخاطبهم عسكر مبارك ليل نهار) وبتواطؤ من حماة الأمن وحماة الثورة ليؤكدوا لهم ألا انتماء لكم سوى لقطيع الكنيسة.

جئنا نحن نبحث عن رفيق ميداننا، صاحب البسمة الساحرة، مينا الذى يشبهنا ونشبهه. اختارت الشهادة مينا لأنه ينتمى لقطيع الميدان والثورة، هكذا فهمت من أسرته التى أصرت أن تشرك زملائه فى كل قرار ــ لأنهم زملاؤه. ناضل مينا من خلف ستار العالم الآخر لتنفتح قلوب أهالى الشهداء لنا ونصبح رفاق كفاح واحد. فالدم واحد والدمع أيضا واحد، وكما رأينا الحقيقة فى دموع أمهات الشهداء بعد أن افتقدناها فى شاشات التليفزيون رأوا الحقيقة فى دموعنا. فهموا أننا رفاق مينا ونسوا أن يسألونا عن أسامينا بالريبة المعتادة.

أصدر المستشفى تقريره على نهج ماسبيرو: ماتوا بسكتة قلبية، أو كانت مشاجرة؟ تقدم القساوسة بنصيحتهم: لندفنهم سريعا فالجو حار والمشرحة بلا ثلاجات. تدخلنا نحن بغرور الميدان وسذاجته: ماذا عن العدالة؟ ماذا عن القصاص؟ هؤلاء آخر فرصة لإثبات الجرم، نحتاج لتقرير طب شرعى.

أى خبل هذا، أنمثل بأجساد أبنائنا بحثا عن عدالة لم نرها ولا مرة؟ ولا حتى مصادفة؟ أى عدالة ونحن فقراء؟ أى عدالة ونحن أقباط؟ أى عدالة والقاتل يحكم؟ ألا تفهمون أننا ضعفاء؟

لكن بين صفوفنا مينا، وكانت أخته أول من وافق على التشريح، وبدأوا يقتنعون الواحد تلو الآخر، على مضض وتحت إلحاحنا وتشجيع الحقوقيين، ساعات من البكاء والنقاش والأحضان. نحارب الزمن خلالها بألواح ثلج ومراوح بائسة عسى أن تكون محبتنا كافية للحفاظ على طهارة الجثامين.

بمطلع نهار اليوم الثانى جاءت النيابة لتجد نصف الأهالى يطالب بالتشريح، فأصدر سيادة القاضى فرمانه: إما أن يصدر تصاريح دفن أو تكليف للطب الشرعى، أليس الكل فى الموت سواء؟ وطبعا لم يبخل القساوسة بنصائحهم: رفاقهم سيصلى عليهم سيدنا بعد وقت وجيز، لو تأخرتم يكون قد رجع إلى قلايته، ارحموا أبناءكم فجزاؤهم فى الجنة كبير.

وقفنا صفا واحدا على جبهة صراع مع النظام، لكن هذه المرة الجبهة فى العقل، وخط النار على القلوب. وكما انهزم النظام أمام صفوف الهتاف وصفوف الطوب، انهزم أمام صفوف التضامن. بعد سجال طويل أصدرت النيابة أمر بتشريح كل الجثامين.. بشرط أن نؤمن نحن عمل لجنة الطب الشرعى.

نعم، بدأ الأمر بأننا مسئولون عن تأمين تظاهراتنا، ثم تطور لنصبح مسئولين عن تأمين المنشآت العامة، وها نحن اليوم مسئولون عن تأمين موظفى الدولة إن أردنا أن تتصرف الدولة وكأنها دولة. لم نشغل نفسنا بسؤال «وما دور الشرطة والجيش»، فالإجابة واضحة على أجساد الشهداء.

قلنا للأهالى التشريح سيطول، دعونا ننقل الجثامين لمشرحة زينهم حيث الإمكانيات أفضل. عاد الخوف إلى عيونهم؛ صحيح نقل مينا لهم عدوى الإيمان بمصر، لكن ماكينة الإشاعات لم تتوقف عن العمل وعصابات الشرفاء لم تتوقف عن ترويع الجمع طوال الليل. لم يقولوها صراحة إكراما لنا لكننا فهمنا: لن نترك الحى القبطى، فنحن لا ندرى أى شر ينتظرنا خارجه.

كان علينا إذن أن نؤمن المستشفى، ونضمن للجنة ظروفا مناسبة للعمل. كان علينا أن نخلى المبنى من آلاف خائفة، ونضبط سلوك آلاف غاضبة. وما نحن إلا قلة دخيلة. كان علينا، ويا للمفارقة، أن نقوم بدور يشبه دور الأمن المركزى. جبهة جديدة ولا نملك إلا وحدة صفنا.

بدأت اللجنة عملها تحت حمايتنا، وتحت إشراف محامينا وأطبائنا، جنودنا المجهولين الذين خبروا كل مظاهر الظلم فأصبحوا أعلم بشواهد القتل والتعذيب وقرائن الجرائم والمذابح من خبراء الطب الشرعى. باشرت اللجنة عملها وكلنا قلق أن يدخل أحد الأهالى ويرى المشرط فى جسد ابنه فيهيج، أو أن تنهار صفوفنا أمام هجوم الشرفاء أو غضب المنكوبين.


مملكتى ليست من هذا العالم

تقلق وحدة صفنا كل المستفيدين، وأخطرهم تجار القضية، حلوا علينا بسمهم المعسول: أتثق فى تلك المحامية؟ دى شابة ومش عارفة حاجة.. أنا عندى خبرة طويلة، ومين دول؟ دول كلهم مسلمين، تأمن لهم إزاى؟ لقد حذرتنا من شهور يا مينا عندما قلت لنا: ضرورى ينضم ماسبيرو للتحرير، ضرورى مطالب الأقباط تبقى مطالب الشعب ومطالب الشعب تبقى مطالب الأقباط. والاختبار صعب يا مينا، فالسلطة غشيمة تضرب بعشوائية، أما هؤلاء فيعرفون موضع الجرح بدقة. قضينا باقى اليوم نحارب شائعاتهم الكاذبة واتهاماتهم الباطلة. نعيد كسب ثقة الجمع ونعيد له هدوءه.

قمنا بدور تصورنا فى البداية أنه شبيه بدور الأمن المركزى، لكن شتان، لن أفهم أبدا بعد اليوم كيف يتصور أى جهاز أمنى فى أى مكان فى العالم أن العنف وسيلة فعالة فى ضبط سلوك جماهير غاضبة أو خائفة، من الذى أشار على كل حكومات الأرض أن النزول بسلاح فى مواجهة جماهير سيهدئهم؟ لم نملك سلاحا أمام موجات الغضب إلا الأحضان، رمينا أجسادنا أمام الجموع وبالحضن وبدموع تبكى الشهداء استطعنا أن نبدد ضلالات واقع طائفى عسكرى وننشر حقيقة حلم مصر الحرة.

يا مينا، مصر الميدان هشة ممكن رصاصة واحدة طائشة تطيح بها.. يا مينا، مصر الميدان قوية ممكن حضن واحد ينقذها.. يا مينا، فى حضرتك فهمت تعاليم الأنبياء، متى يفهم العسكر؟

عندما بدأت لجنة الطب الشرعى عملها تذمر الخبراء من نقص الإمكانيات، من سوء الظروف، من فرض رقباء عليهم، ولكن فى النهاية فرض عليها أن تقوم بعملها. عندما قاربت اللجنة على الانتهاء من التشريح وبدأت فى كتابة أسباب الوفاة فجر أحدهم إشاعة أن التقارير كاذبة، ولأن أسباب الوفاة قد تذكر جرحا واحدا فقط هو القاتل حتى لو كان بالجسد عشرات الجروح صدق أهالى الشهداء وهاج الجمع وانهارت صفوفنا.

ونحن على شفا الانتصار واجهنا أصعب محنة، الأهالى آمنت بحلم العدالة، وتركتنا نعبث بأجساد أبنائها، وفاتها كرامة أن يصلى عليهم سيدنا بل وقد يتأخر الدفن لليلة أخرى، ضحوا بكل ما طلبنا منهم أن يضحوا به رغم ترددهم فى البداية، والآن يريدون ضمانا، يريدون أن يحسوا بتلك العدالة، ونحن نقدم لهم كلاما تقنيا وكعابيل قانونية غير مفهومة. لماذا يقول التقرير دهس بمركبة ثقيلة؟ الحق بيّن وكلنا نعلم أنها مدرعة، لماذا لا يقول مدرعة؟ ما هذا المقذوف النارى؟ لماذا لم تكتبوا «رصاص ميرى؟»، ألم تعدونى بعدالة؟ أين اسم الجانى وكلنا نعرفه؟

لم أعِ متى انتصرنا، فقد كنا غارقين فى تفاصيل التفاصيل، لكن فى لحظة نظرت حولى فوجدت وحدة صفنا صارت تشمل العاملين فى المستشفى والأطباء والقساوسة. ماذا فعلت يا مينا؟ هل أيقظ ضعف ورقة حال أهلك ضميرهم أم أيقظت قوتك خيالهم؟ هل تخطينا كل تلك الحواجز فى ساعات فعلا؟ بل انضم لنا أطباء الطب الشرعى أيضا، كان الحل الوحيد هو أن نجلس مع كل أسرة على حدة، نشرح معنى أسباب الوفاة، والتفاصيل التى ستضاف لتقرير الطب الشرعى، ودور النيابة، ودور المحامين، وانتقلت العدوى للطبيب الشرعى وتحول من مجرد موظف إلى مشرف على العدالة، ربما عندما اضطر أن يترجم لغة تقارير اعتاد ألا يقرأها إلا الأقوياء إلى لغة الضعفاء تذكر أن الحق دائما مع الضعفاء؟ رأيتهم يصفون ملامح الشهداء للأهل ليطمئنوهم أنهم ليسوا مجرد جثث، ليثبتوا أنهم يعرفونهم ويهمهم ذكراهم. رأيت ما استشهدت أنت من أجله يتحقق ولو للحظة.
فى طريقنا للكنيسة كان انتصارنا كاملا، لم يعد أحد يسأل عن اسم من شارك فى حمل الشهداء، ومن قاد الهتاف، هل كان مسلما من اقترح أن نهتف «يا نجيب حقهم يا نموت زيهم»؟ يا له من سؤال سخيف. الدم واحد والدمع أيضا واحد.


فأدر له الخد الأيسر

قبل المستشفى القبطى كنا فى مستشفى آخر بعيدا عن الأحداث، ننتظر صورة أشعة على قدم أحمد المصاب برصاص حى.

وجدنا أحمد فى شارع طلعت حرب، كان يحاول مع رفاقه إنقاذ الوطن بالعودة لميدان التحرير. لم يكن قد مر على سقوط الشهداء إلا ساعات معدودة، لم يفكر الشباب فى موازين القوة، هل عددهم يكفى أم لا، ما العمل والقوات غير المسلحة (وفقا للمؤتمر الصحفى العالمى) تطلق الرصاص بسخاء. فكروا فقط فى هول ما سيحدث إن تُرك الميدان لمظاهرة المرتزقة التى انطلقت بمباركة الجيش والشرطة تهتف «إسلامية إسلامية». كنا جميعا نعلم أنها مظاهرة مفتعلة، محاولة لصبغ مذبحة عسكرية بصبغة أهلية وإلصاق التهمة بالسلفيين.

بدا لنا أحمد كبطل أسطورى وهو يقاوم زملاءه رافضا الذهاب إلى مستشفى متعللا بأن الجرح خفيف وأكيد الطلق مجرد خرطوش. أقنعناه أن نذهب لمستشفى خاص بعيد عن الأحداث وحملناه على أكتافنا. فى التاكسى حكى لنا أنه اعتقل وذاق تعذيب الجيش الذى لا يخطئ وجرب «نزاهة» قضائه العسكرى، حكى لنا عن إصابته فى موقعة الغدر بالعباسية. لم تمنعه الإصابات من النزول مجددا فى مواجهة الرصاص.

فى المستشفى بعد أن اكتشفنا أنه مصاب برصاص حى لا خرطوش حل علينا ضابط مباحث لاستجوابه، أبهرتنا صلابة أحمد وهو يرد على الضابط بكل برود وتحد، وأبهرنا أكثر اشمئزازه من تعليق ضابط المباحث «مسلم يعنى» عندما سأل عن اسمه. هل كان سيمنعه من العودة إلى بيته لو كان مسيحيا مثلا؟

لم يتبين لنا أن أحمد ضعيف مثلنا إلا من بكائه فى حضننا عندما طهر الطبيب جرحه، ولم ننتبه إلى أنه فتى فى سن الثانوى إلا وهو يرد بخوف على والدته فى المحمول: «ماسبيرو إيه بس يا ماما، لا أنا خارج مع أصحابى».

هل يعرف اللواء حمدى بدين أن بين صفوفنا من يخاف والدته الحنون أكثر مما يخاف الرصاص والمدرعات؟ هل سمع المشير هتافنا «يا مشير يا مشير من التحرير هنزف عريس» ونحن نصحب مينا فى زيارته الأخيرة للميدان؟ هل يفهم أى من العسكر معنى زيارة أم خالد سعيد لأم مينا دانيال؟ أم أنهم نسوا الدم والدمع والحضن والحلم ولم يعد لهم مكان فى صفوفنا حتى بعد أن اتسعت لتشمل من خذلونا من قبل؟

الاثنين، 17 أكتوبر 2011

عن انتخابات نقابة الأطباء 2011

في البداية أود أن أهنيء عموم أطباء مصر بهذا المشهد المهيب الذي رأيناه يوم الجمعة 14 أكتوبر 2011، المشهد الذي سيظل راسخا في ضمير كل من تقدم و سيتقدم لتمثيل الجنود الصامتين، المتشحين بالبياض، المقاتلين الرحماء، الأطباء المصريين. المشهد الذي يعني أن من سيعمل في الدار المقدسة للحكمة سيكون خادما لإخوانه لا سيدا عليهم يستغل تمثيلهم لمكاسب شخصية أو حزبية، فإن خيب ظنهم أو خان عهدهم أسقطوه مكللا بالعار في مشهد الانتخابات التالي.
لا أجد ما اعبر به عن فخري و اعتزازي بالانتماء لهذه الكوكبة المتميزة والنخبة الطيبة من المجتمع المصري الأصيل، هذه المجموعة التي ترسم – في رأيي – الصورة المثالية للناخب المصري المثقف و الملتزم و المحترم، الذي يحدد هدفا ويسعى وراءه دون أن يكون لعبة في يد المنتفعين من أصحاب المصالح و الأهواء، فلا يتأثر بالإغراءات المادية أو الوعود الشخصية، بل يفكر ويختار للصالح العام.
قد تكون رؤيتي هذه متفائلة بالنسبة للكثيرين الذي قد يرون انه لا يوجد ما يدعو للتفاؤل بهذه الدرجة، لكني سألخص أسباب تفاؤلي في الآتي:
1) المشاركة الكبيرة لأعضاء النقابة في التصويت، صحيح أنها كانت في حدود 20% من الناخبين المسجلين، لكننا يجب ألا ننسى أن العديد من الناخبين غير موجودين في مصر من الأصل، بالإضافة إلى من ذهب للانتخاب و لم يتمكن من التصويت لأسباب إدارية بحتة، مثل المصاريف و التسجيل في النقابة الفرعية، و أتصور أن هؤلاء سيقل عددهم في المشاهد الانتخابية التالية نتيجة ازدياد الوعي من جهة و التطور التكنولوجي من جهة أخرى و الذي قد يسمح بالتصويت الالكتروني، مما سيشجع الجميع على المشاركة الفعالة، أضف إلى ذلك ما سيلمسه الجميع من تحسن تفاعل النقابة مع مشاكلهم و مساندتها لهم، وهو ما سيدفع من نسميهم "حزب الكنبة" للتحرك و المشاركة.
2) الاحترام الكبير و المتبادل بين الناخبين و المرشحين، فلا توجد محاولة للتأثير على رأي الناخب بالصورة الفجة التي شهدناها في استفتاء مارس 2011 أو ما سبقه من الانتخابات المزورة، حتى ما قام به بعض المرشحون أو القوائم من توزيع مياه الشرب المبردة على الناخبين أثناء انتظارهم للتصويت تم بصورة راقية خلت من أي شكل من أشكال الضغط أو التوجيه.
3) نزاهة العملية الانتخابية ليست محل شك، فالتصويت جرى بشكل واضح و تحت رقابة قضائية و مجتمعية و إعلامية، و تم الفرز بشكل علني و في وجود ممثلين عن الجميع. اعلم انه كانت هناك بعض المخالفات، لكنها بشكل عام كانت محدودة و لا تؤثر جذريا في النتائج.
4) التمثيل المعقول للمرأة و المسيحيين في كل القوائم بما فيها قوائم الإخوان، و الذي أتمنى أن يزيد و يتطور في المشاهد التالية.
5) الاهتمام المجتمعي و الإعلامي الكبير بهذا الحدث، والذي يدل على أن المجتمع بشكل عام ينتظر الكثير من هذه الفئة العبقرية من أبنائه.
6) النتيجة: وهي في رأيي ادعى الأسباب للتفاؤل، فبقراءة متأنية و غير منفعلة نجد أن التيار الديني تراجع تمثيله بالفعل عما كان عليه في الأعوام السابقة، حتى و إن لم يعترف ممثلوه بذلك. ليس هذا فحسب، بل إن التيار الديني تراجع في الأقاليم، وكنا نظن أن ذلك لن يحدث إلا في القاهرة و الإسكندرية فقط. فإذا أخذنا بعين الاعتبار سيطرة هذا التيار على النقابة طيلة العقود الثلاثة الماضية فإننا لابد أن نجد أن حصوله على نسبة 60% أو اقل من مجموع المقاعد هو مؤشر جيد على تحرك المياه الراكدة و ضخ الدماء الجديدة في شرايين النقابة. لا يعني هذا أن يكون الأطباء ضد الإخوان المسلمين مثلا، لكن الاحتكام في الانتخابات لا يجب أن يكون للدين، وإنما للانجاز السابق و البرنامج التالي.
هل يعني ما سبق أن الانتخابات وما سبقها و ما تلاها كانت ملائكية مائة بالمائة؟ بالطبع لا، هناك بعض الهفوات و السقطات لاحظتها و ألخصها في الآتي:
1) الاختيار في الأغلب تم بناء على استبعاد تيار معين (ديني أو ليبرالي) أو بناء على معرفة شخصية، ولم يكن على أساس البرنامج.
2) محاولات الحشد الديني من الطرفين، صحيح أنها لم تكن بحجم أو تأثير ما شوهد في استفتاء مارس، لكنها للأسف كانت موجودة.
3) عدم وجود الحيدة الكاملة من اللجنة النقابية المشرفة على الانتخابات، تمثل ذلك في عدم وضع برامج كافة القوائم و المرشحين على موقع النقابة، وإنما وضعت برامج الاتجاه الديني فقط. كذلك سُمح لممثلي التيار الديني بممارسة الدعاية الانتخابية داخل بعض مقار الانتخاب (و لكن ليس داخل اللجان) دون السماح بذلك للآخرين.
4) عدم احترام البعض للنتائج النهائية، فهاهو طارق الغزالي حرب يدعي منع ثلاثة آلاف مسيحي من التصويت، وهو ادعاء كاذب من ناحية و مدمر للوطن و للسلم الاجتماعي من ناحية أخرى، فإن كان ادعاؤه صحيحا وجب عليه التقدم به للجهات المختصة دون إفشائه في الإعلام، وإما إن كان ادعاؤه كاذبا – وهو ما اعتقده – فعلى الجهات المختصة محاسبته و عقابه.
وفقنا الله جميعا لما فيه مصلحة مصر.
أيمن زعقوق
17 أكتوبر 2011