الجمعة، 11 مارس 2011

فى انتظار «المعداوى»..! - أحمد الصاوي


يقف القطار ساكناً منذ وقت طويل، لا أحد يعرف لماذا يقبع فوق قضبانه بلا حراك، ولا أحد يكترث من بين طاقمه بالإجابة عن آلاف الأسئلة التى تدور فى أذهان الركاب، وليس بينهم من يقتنع بحقهم فى المعرفة، وهم عادة بلا قيمة، وينظر لهم المفتشون والكمسارية نظرة دونية، خاصة إذا كانوا من أولئك الجالسين فى عربات الفقراء الخلفية، بينما تتغير لهجاتهم عند دخول محيط «التكييف».

كل راكب يجلس على مقعده حسبما تيسر له، منذ غادر القطار محطته الأخيرة قبل ٢٥ عاماً، وكل شىء يخضع لما يتيسر: «اللى معاه قرش يساوى قرش» يجلس المرفهون فى المقدمة، بينما يتكدس الفقراء فى الخلف، بعضهم لا يجد مقعداً، ويضطر لافتراش الممر الطويل بين المقاعد أو الجلوس بين العربات، وهؤلاء أسعد حظاً من الذين حرمهم «الضنك» من الدخول، واضطروا لقضاء الرحلة «تسطيح».

الكمسارية يجوبون العربات، يمارسون مهام الجباية يثور الناس: «القطار لا يتحرك ويريدون مقابل رحلة لا تتم.. اللى اختشوا»، يستعين الكمسارية برجال الأمن، يرفعون عصيهم ويطلقون وعيدهم، تهدأ احتجاجات القوم.. يأتى مرسوم يزيد الأسعار، يبحث الجباة عن الفرق.. يحتج القوم: لماذا الزيادة؟ يرد المحتسبون: «زادت أسعار الوقود».. يصرخ الفقراء: «القطار متوقف يا عالم»..!

كان الجميع قد تم استنزافه، ٢٥ عاماً فى الرحلة أنفق كل راكب ما يملك، بعضهم كان يحدوه الأمل فى أن يتحرك القطار، وأن يبلغ محطة الوصول، والبعض الآخر كان يدرك أن محطة الوصول بعيدة، طالما أن أحداً لا يعرف سر توقف القطار.

لكن كثيرين تطوعوا بتكهن الإجابة، قال أحدهم: «إن الوقود قد نفد، ولابد أن ندفع وندفع حتى يشترى سائق القطار بأموالنا وقوداً للحركة»، وقال شيخ ادعى أنه نافذ فى السماء: «مات سائق القطار عند توقفنا فى المحطة السابقة، وعلى ما يبدو لم يتم استدعاء سائق جديد بعد»، وقال شاب ذو خبرة بقواعد السكة الحديد: «ربما كانت الأزمة فى الإشارة التى ترفض فتح الطريق للمرور، والأرجح أن عامل الإشارات نسى القطار أو جاءته أوامر عليا بتجميد الموقف»، وتساءل آخر: «ولماذا لا نتحرك ونكسر كل إشارات الصمت وننهى هذا الوضع؟».. وكان الرد: «إن الأمر ربما يحوى خطراً ما، وسائق القطار لا تروق له المغامرات غير المحسوبة».

«لكننا مجمدون فى هذه المنطقة، طوال هذا الوقت».. قالها راكب غاضب وألقى بنفسه من النافذة..!

كان الجوع يفتك بالقوم فى عربات «الترسو» والإمدادات تنهال على عربات «التكييف» يتقاسمها السادة والطاقم والسائق، لكن شاباً «ترساوياً» تسلل نحو السادة فى عربات الصفوة، ساد الذعر، أقسم أنه ليس بلص، لا يطمع فيما معهم من زاد، لكنه سأل سؤالاً كالصدمة: «أنتم سادتنا.. لماذا لم يغضب أى منكم من هذا الوضع؟»

لم يكترثوا به، أمنوا أذاه وتركوه وشأنه، كانت قسمات الراحة تكسو ملامحهم، أخبره شاب من عمره بالسر: «قطار متوقف نجلس فيه بعربات الصفوة خير من حركة يتبعها أذى، وتدفع بالغوغاء إلى عربات السادة».. أيقن أن النخبة اتفقت على أن تبقيهم فى «الثلاجة» داخل عربات لا ساتر فيها من برد أو جوع.

من بين النخبة خرجت سيدة غاضبة تذكرت فجأة أن الطريق لا يتطور نحو الهدف المرجو من رحلتها، سألت.. لم تجد إجابة، سارت بين العربات تفتش عن تفسير، وجدت أن الطاقم كامل، والسائق موجود.. رغم تقدمه فى العمر، يجلس فى الجرار يمارس أعماله، ومساعدوه من حوله يزعمون أن القطار يسير ويوهمونه بأنه قطع جل الطريق، تأتى للجرار أصوات الفقراء وقد ثاروا من قهر الصمت، يسأل عنهم، يخبره الكمسارية بأنه لا شىء، بضعة غوغاء يتشاجرون على لقمة عيش.

تنتفض المرأة ذات الوجه الغاضب، تكاد تقول الحق فى وجه السائق وتفضح هذا الزيف، يجزع منها كل رجال الأمر، تطلب منهم تفسيراً لا يحمل زيفاً أو غدراً، يصحبها أحد الأشراف يطلعها على أوراق الفحص: «السائق طاعن فى السن والجرار أكل عليه الدهر، والرؤية منعدمة، والكشافات بلا ضوء، والإشارة لا تصلح، وهناك خطورة فى السير». والحل؟.. سألت تلك المرأة فى فزع: «هل نبقى فى هذا الوضع المتردى حتى نهلك؟» كان الرد أن الحالة لا تسمح بالسير، والأرجح أن ننتظر «معداوى» يعبر بنا حتى محطة «أمن»، وهناك نعيد بناء «القطار»..!

■ نشر فى 9- 9 - 2006

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق