الخميس، 26 نوفمبر 2009

الهزيمة ليست كروية - رامي ابراهيم

المصري اليوم - 23/11/2009

لست مع الذين يقللون من أهمية النتيجة التى انتهى إليها اللقاء الفاصل فى أم درمان بين منتخبى مصر والجزائر، رغم قوة حجتهم بأن الهزيمة الكروية فى مباراة لا تستحق كل هذه المشاعر السلبية من الإحباط والمرارة التى ملأت نفوس جموع المصريين.
غير أن أصحاب ذلك الرأى يتجاهلون أن إحساس المهانة لدى المواطنين لا يرجع أبداً إلى مجرد خسارة ١٤ لاعبا فى مباراة، أو لتعرض بضعة آلاف من المشجعين لاعتداءات همجية بعدها، وإنما ليقينهم بأن مكانة وطنهم تراجعت فى إقليمه، وأن الفساد وانعدام الكفاءة قد حاصراه وسحبا من رصيده التاريخى الذى راكمته أجيال سابقة، حتى وصلت الدولة الأقدم فى التاريخ إلى درجة من العجز لم تعرفها من قبل.
لم يجد المصريون ما يباهون به الجزائريين إلا مساندة ثورة التحرير العظيمة (١٩٥٤ – ١٩٦٢) وكأنهم يطلبون غض الطرف عن الأربعين عاما الأخيرة، معترفين بأن سجل السياسة الخارجية المصرية خلالها لا يحوى سطورا كثيرة تدعو للفخار، ولم يعثروا على أسماء كثيرة لمصريين يحظون بالتقدير لدى الأمة العربية كلها يمكن الاعتماد عليهم فى تخفيف حدة الاحتقان عند جماهير الجزائر التى ضللتها آلة إعلامية موتورة، وكأن «خزان المواهب» الذى امتازت به مصر دوما قد نضب، ففقدت «قوتها الناعمة» نتيجة أوضاعها البائسة التى حرمتها من الدعاة الدينيين محل الثقة ونجوم الفن موضع الحب ورموز الثقافة ذوى الثقل فضلاً عن قادة السياسة أصحاب المصداقية.
تصدر المشهد الإعلامى فى مصر لستة أسابيع متتالية نفر من لاعبى الكرة السابقين الذين جمعوا إلى محدودية الثقافة وقلة الوعى انعدام المسؤولية، فراحوا يقدمون أسوأ صورة لبلدهم الذى نصّبوا أنفسهم دون حق متحدثين باسمه، وانطلق كل منهم يبث الكراهية ضد شعب عربى مستخدما ألفاظا يقع بعضها تحت طائلة قانون العقوبات، وتنافسوا على الجنوح نحو كل ما هو سوقى وردىء، وتجرأ أحدهم على التشكيك فى وطنية كل العقلاء الذين حذروا من مغبة تلك الحماقات ساخرا من مبادراتهم للتهدئة، دون سند لمقولاته المتهافتة إلا وجود تجاوزات مماثلة يمارسها أشباهه من الناحية الأخرى.
وحين حدثت الفتنة التى كان هؤلاء أحد أسبابها تبجحوا بمقولة «ألم نقل لكم منذ البداية؟»، ليواصلوا حملتهم المجنونة، مستندين هذه المرة إلى إشادة تلقوها على الهواء مباشرة طمأنتهم إلى أنه من غير الوارد إخضاعهم للمحاسبة (ومعهم وقبلهم عدد من الصحفيين الجزائريين)، وأن النار التى أشعلوها وكادت تؤدى إلى كارثة فى القاهرة ثم فى الخرطوم هى محل تقدير!
لم يخسر لاعبو المنتخب ومدربهم وحدهم مباراة فى كرة القدم، وإنما خسرنا جميعا حين صدقنا «إعلام الفتنة» فرضينا بتحويل نتيجة ٩٠ دقيقة من اللعب إلى معيار لكرامة الوطن، ثم نظرنا بعين واحدة إلى تصرفات الجماهير فسمحنا بتجاوزات وبحثنا عن مبررات وقبلنا أكاذيب فى القاهرة، بينما رفعنا صوتنا منددين فى الخرطوم.
إن ارتباك السياسة الإعلامية هو الوجه المقابل لإخفاق السياسة الخارجية وانحسار التأثير الثقافى، فلا يمكن لواقع بائس أن يعكس نفسه فى مرآة الإعلام صورة زاهية.
ومن المؤسف أننا لا نعرف حتى الآن على وجه دقيق اسم المسؤول عن سوء إدارة «موقعة أم درمان»، وستظل أسئلة كثيرة مطروحة دون إجابات مثل: لماذا كان الجمهور المصرى قلة فى استاد المريخ مقارنة بجماهير الجزائر؟ ولماذا لم ينتبه أحد إلى خطورة الوضع قبل المباراة حين احتشد عدة آلاف من الميليشيات المنظمة فى خيام على أطراف الخرطوم؟ ولماذا لم يحذر أحد من تدافع مشجعى الجزائر لشراء أسلحة بيضاء؟ ومن الذى أبعد جماهير كرة القدم الحقيقيين عن السفر إلى السودان لحساب جمهور آخر غير مناسب؟
والأكثر مدعاة للأسف أن البعض أراد أن يجعل من المنتخب ترساً فى ماكينة التوريث، لكنه تقاعس فى الوقت نفسه عن توفير الظروف المناسبة لتحقيق النصر الكروى الذى أراده، لنتأكد من جديد أن انعدام الكفاءة سمة عامة لدى كل الأطراف فى النظام السياسى الحالى.
لكل هذه الأسباب أجدنى متعاطفا بشدة مع الغضب الشعبى الجارف من نتيجة المباراة حتى لو انحرف عن هدفه الحقيقى، متفائلا بأن الأيام ستعيد ترشيد هذا الغضب وتحيله إلى طاقة لإصلاح الأوضاع الداخلية فى مصر، شريطة أن يبدأ على الفور نقاش واسع فى المجتمع من أجل فهم ما حدث والاستفادة من دروسه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق