الأربعاء، 25 نوفمبر 2009

عبدالناصر وبن بيلا.. ينتحبان - د.يحيى الجمل

بقلم د. يحيى الجمل ٢٣/ ١١/ ٢٠٠٩

من الطبيعى أن يتحمس المصريون للفريق المصرى فى كرة القدم، ومن الطبيعى أن يتحمس الجزائريون لفريقهم، ومن الطبيعى أيضاً أن تهتم وسائل الإعلام فى الدولتين بهذه المباراة المهمة المؤهلة لكأس العالم.. كل هذا طبيعى، ولكن ما حدث تجاوز كل الحدود، وتجاوز كل الثوابت والأعراف.

التعبئة الإعلامية والإثارة الزائدة وتصوير الأمر على أنه أشبه بمعركة حربية، أو هو بالفعل معركة حربية، خرجت بالأمور عن نطاق مباراة مهمة وحاسمة حقاً، ولكنها مباراة كرة قدم على أى حال، ويقيناً حدثت تجاوزات، ولكن التجاوزات عندما تصل إلى حمل السلاح الأبيض والضرب حتى الموت، ووضع أعلام كريمة وغالية تحت الأقدام، والهتافات السياسية غير المسؤولة، هذه كلها أمور خرجت عن كل مألوف ومقبول.

تذكرت أياماً عظيمة ورائعة وأنا أشاهد هذا المنظر البائس الحزين الذى يعبر عما وصل إليه حال الأمة العربية كلها من هوان، تذكرت «بن بيلا» وهو يُعلن ثورة الجزائر من القاهرة، وتذكرت فتحى الديب، رحمه الله، وهو لا يكف عن الحركة وعن تنفيذ توجيهات عبدالناصر برفد ثورة الجزائر بكل ما تحتاج من سلاح، وغير سلاح، وتذكرت العدوان الفرنسى على مصر لسبب أساسى وحيد هو مساندة مصر لثورة الجزائر، ودعمها إلى آخر المدى وحتى الانتصار.

تذكرت ذلك كله، وتذكرت يوماً كنت فى باريس وكان الرئيس أحمد بن بيلا مقيماً آنذاك فى ضاحية من ضواحيها، وذهبت لزيارته وأثناء الحديث قال لى: «يا أخى أنا مُشتاق لزيارة قبر أخى فى مصر، ويبدو أنهم فى مصر يجدون حرجاً فى زيارتى نظراً للعلاقة مع بومدين الرئيس الحالى للجزائر، الذى قاد انقلاباً ضدى، يا أخى يحيى أنا مشتاق لزيارة قبر أخى».

ولوهلة تصورت أن أحد أشقاء بن بيلا توفى ودُفن فى مصر، وبعد الاستطراد فى الحديث أدركتُ أن بن بيلا كان يقصد بقبر أخيه قبر عبدالناصر، وعندما عُدت إلى القاهرة - وكانت تلك المقابلة مع الرئيس بن بيلا فى فرنسا فى أوائل الثمانينيات من القرن الماضى - وتحدثت مع المسؤولين قالوا إنه لا مانع يمنع من حضور بن بيلا، بل يحضر على الرحب والسعة، ولكننا نرجو ألا يباشر نشاطاً سياسياً أو إعلامياً ضد القيادة الحالية فى الجزائر.

وجاء بن بيلا ومن المطار توجه إلى قبر عبدالناصر.

تذكرت هذا كله وأنا أشاهد ما يجرى هذه الأيام وانتابنى حزن عميق.

هل تبخر ذلك كله؟ وهل فعلاً شُيعت جنازة الأمة العربية؟ وهل نسى الجزائريون - بحدتهم المعروفة - كل شىء؟

إن مصر لا تمن على أحد، فقد قامت مصر بما تعتقد أنه كان واجباً عليها نحو شعب عربى شقيق.

قامت بواجبها نحو ثورة الجزائر، وقامت بواجبها نحو ثورة اليمن، ومازال الشعب اليمنى يذكر لمصر ولجيش مصر أنه هو الذى وضعهم على أعتاب القرن العشرين، ونقلهم من ظلامات «الإمامة» والقرون الوسطى إلى مشارف الحداثة.

وعندما كنت فى الجزائر أخيراً فى اجتماع للمجلس الدستورى هناك ومؤتمر للمجالس والمحاكم الدستورية فى عديد من بلاد البحر الأبيض المتوسط شماله وجنوبه، وكان ذلك منذ عدة شهور فقط، لم أر فى الجزائر إلا وجهها العربى.

ماذا حدث؟

الشعب الجزائرى حاد بطبيعته وانفعالى إلى أبعد الحدود.

طبعاً التعميم غير وارد، ولكن الحكم للغالب من الأمر.

ولكن هل يصل الانفعال إلى هذا الحد؟

هل يصل الانفعال إلى حد العدوان بالأسلحة البيضاء على المصريين فى الخرطوم؟

أنا لست شوفينياً، وأنا رجل عاش عمره كله من أجل قضايا العروبة، ولن يكفر بعروبته أبداً، ومازلت أعتقد أنه لا خلاص لأقطار الأمة العربية، ولا سبيل إلى فرض وجودها على خريطة العالم إلا بتقارب وتنسيق حقيقى بين هذه الأقطار.

هل ينظرون إلى تجربة الاتحاد الأوروبى؟ لقد كتبت فى ذلك الأمر منذ عدة أسابيع، أوروبا التى اقتتلت دولها وشعوبها تتوحد الآن.

ونحن نقتتل من أجل مباراة كرة قدم مع كل الاحترام والاهتمام بالرياضة إلا أن هذا لا يليق.

رحم الله السادات وهو يقول: «عيب».

ورحم الله عبدالناصر رحمة واسعة وأطال فى عمر أحمد بن بيلا رمزاً عربياً شامخاً.

أظن أن عبدالناصر يتألم فى قبره، وأظنه هو وأحمد بن بيلا يتألمان وينتحبان لما جرى ويجرى على الساحة العربية.

والله المستعان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق