الأربعاء، 25 نوفمبر 2009

مصائر الشعوب ليست تحت أقدام لاعبى الكرة - د.طارق عباس

21/11/2009
فى الأيام الأخيرة، حدث شحن معنوى للشعبين المصرى والجزائرى، بسبب الساحرة المستديرة كرة القدم، وتحول هذا الشحن لصراع، يحمل فيه كل طرف المسؤولية عن التصعيد غير المبرر على الطرف الآخر، وبين الفعل الغاضب ورد الفعل الأكثر غضبًا تحولت المباريات الكروية الرياضية بين الطرفين إلى شبه معارك إرهابية استعملت فيها كل الوسائل الممكنة لتحقيق نصر كاذب فى معركة مزيفة.وبلا مبرر تعرضت المصالح المصرية فى الجزائر لاعتداءات نتجت عنها خسائر بالملايين وبلا مبرر، راحت بعض وسائل الإعلام تنفخ فى أبواق الفرقة بين الشعبين، وجمعهما على لغة الكرة بدلاً من اللغة العربية، ودين التعصب بدلاً من دين الإسلام، وشعارات الفرقة بدلاً من تعميق ثقافة الاتحاد فى مواجهة عدو واحد اسمه الكيان الإسرائيلى، عدو للعرب جميعًا، ومتربص بهم، ومستفيد من إغراقهم فى متاهة التفاهة والبلاهة لشغلهم عن القضايا المصيرية بقضايا ظاهرها ممتع، وباطنها سموم قاتلة، وبلا مبرر نسيت الجماهير حالها ومالها وأنفقت ما فى وسعها وغير وسعها من مال وعرق ودم ووقت وجهد وأعصاب، فى سبيل شراء الأعلام والتجمهر على المقاهى وتوقع النتائج والبحث عن تذاكر فى السوق السوداء، للذهاب إلى استاد القاهرة واستاد المريخ بأم درمان ومشاهدة القنوات الفضائية...إلخ، وقد هالتنى هذه الحمية الكاذبة التى أصابت الجماهير العربية، خاصة جماهير الشعبين الجزائرى والمصرى، حمية فى غير موقعها، تكشف عورات كان لا يصح أن يراها العالم فينا، فهل يعقل أن نلتف حول لعبة كرة القدم، ونترك لعبة السياسة لمن يمارسونها فى الخفاء، ويديرونها لصالحهم؟ لمصلحة من ترتفع الكرة إلى قمة الأولويات وتهبط العقول تحت الأقدام؟ لماذا لا تعبر إسرائيل عن نفسها كما نعبر؟ ولماذا لا يخرج شعبها بعد الفوز فى أى مباراة ليطبل ويزمر ويرسم على وجهه، ويقفز فوق السيارات ويدغدغها مثلما نفعل نحن العرب؟ ومن المسؤول عن هذه الروح العدائية التى نبتت فى غياب متعمد لروح التضامن العربى والأخلاق العربية؟صدارة الأولويات الكاذبة تكفى لخلق ردود أفعال غير متوازنة، وتضخيم ما ليس له قيمة، يساوى تحقير كل ما له قيمة، ويبدو أن الأمر كما عبر عنه الإعلامى الكبير الأستاذ فاروق سليمان، فى إحدى الندوات تعليقًا على مشاهد العنف التى صاحبت مباريات مصر والجزائر إذ قال:(عندما يغيب المشروع القومى لشعب يخلق لنفسه مشروعًا، وفى زمن الإفلاس الفكرى والسياسى والاقتصادى، يطفو على السطح، كل ما هو ثانوى، وتتوارى المشاريع الجادة وربما تختفى خلف مشاريع بلا قيمة، وتصبح نتيجة ساعة ونصف الساعة فى عمر مباراة كرة قدم أولى بالعناية والاهتمام ودعم رجال الأعمال من أى مشاريع تنموية أخرى، فلا غرابة إذن فى أن يجتمع العرب على الفن والغناء وأخبار الراقصات ونجوم الكرة وفاتنات القنوات المتخصصة بينما يختلفون فى كل شىء آخر، لا غرابة فى أن تتحول هيستيريا الانفعالات إلى قواعد تنطلق منها الأفعال وردود الأفعال. عندما أقدم الرئيس السادات- رحمه الله- على عقد معاهدة «كامب ديفيد» قطعت معظم الدول العربية علاقاتها مع مصر، وشنت عليها حربًا إعلامية شرسة، وكنت وقتها واحدًا من الإعلاميين المعارين لإحدى هذه الدول المعادية للمعاهدة بوصفى مذيعًا وقارئًا لنشرة الأخبار، وبحكم طبيعة عملى، طلب منى ومن زملائى المصريين الهجوم على مصر ورئيسها أنور السادات، من خلال نشرات الأخبار والتعليقات المسيئة لبلدنا ووقعنا بين مطرقة حب جمع المال وسندان الغيرة على الوطن وزعيمه، ولخطورة الأمر ونيابة عن أصدقائى الإعلاميين توجهت إلى القاهرة لعرض الأمر على رئيس التليفزيون وقتها، السيدة همت مصطفى، وأوضحت لها طبيعة المأزق الذى نحن فيه، فإما أن نقرأ ما يسىء لمصر وهو ما يتناقض مع وطنيتنا وإرثنا القيمى، وإما أن يصدر قرار فورى بإلغاء إعارتنا وعودتنا بسلام إلى أرض الوطن، وأمام إحساس همت مصطفى بالمسؤولية رفعت الأمر مباشرة إلى الرئيس السادات لاتخاذ ما يراه مناسبًا، وكانت المفاجأة المذهلة فى رد السادات، حيث أبلغنا حرفيًا بأنه لا حساب مطلقًا على من يقرأ ما يقدم له من أخبار، لأنه يعمل لدى الدولة التى يقرأ الأخبار لحسابها، وأن العلاقات العربية سوف تعود، وستكون أقوى مما كانت عليه، فمصائر الشعوب لا تقف عند خلافات الحكام) وما حكاه الإعلامى فاروق سليمان، دليل على أن المواطن المصرى كان عنده مشروع، وأن الرئيس السادات كان عنده هو الآخر مشروع أهم لبناء مصر، وبالتالى فليس فى حاجة لشغل الناس بالتفاهات، ليس فى حاجة لتدمير الداخل، حرصًا على الخارج.لقد انتهت المباراة الأخيرة بين مصر والجزائر بهزيمة مصر وخروجها من المشاركة فى كأس العالم فى جنوب أفريقيا عام ٢٠١٠، ولا عيب فى ذلك لأن الكرة منتصر ومهزوم، ولاعبو الكرة معنيون بإسعاد الناس والتسلية عنهم، وليس تدمير معنوياتهم وإرهابهم وترويعهم، مثلما حدث مع المصريين العائدين بعد المباراة الأخيرة، والعيب كل العيب أن تتكرر هذه العصبية البغيضة بسبب الإعلام غير المسؤول، حتى لا يحدث ما لا يحمد عقباه، فهذه المرة سلمت الجرة، ومن يدرى ما قد يحدث لو تكررت مثل هذه الأجواء فى مباريات أخرى؟ الحمد لله أن المعركة أقصد المباراة قد انتهت، والحمد لله على سلامة المصريين العائدين، ولا يصح أبدًا لكائن مهما كان ولأى سبب أن يرهن سلامة الشعوب ومصائرهم، تحت أقدام لاعبى الكرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق