الأحد، 14 أكتوبر 2012

نظرة إلى المحاكمات الجنائية لجرائم الثورة - محمد عماد النجار

الشروق 13 اكتوبر 2012

صدر حكم محكمة جنايات القاهرة فى قضية العصر معلنا عن إدانة رئيس الجمهورية السابق ووزير داخليته بالسجن المؤبد، وبراءة جميع مساعدى وزير الداخلية من تهم قتل المتظاهرين، كما صدر حكم محكمة الجنايات فى قضية موقعة الجمل ببراءة جميع المتهمين، وقد لاقى كلا الحكمين فضلا عن أحكام البراءة الأخرى حالة عامة من خيبة الأمل لدى قطاع عريض فى الشارع المصرى، وهو ما يمكن إرجاعه إلى أسباب عدة. أهمها:



أسباب صدمة المجتمع:



أولا: أن من المتيقن أن بعضا ممن قضى ببراءتهم متورطون فى ارتكاب جرائم قتل الثوار السلميين، وعديد من الجرائم السابقة عليها، والتى كانت وقود الثورة، إذ الثابت أن الفترة السابقة على اشتعال نيران الثورة كانت تشهد افتئاتا جسيما على الحقوق والحريات، بلغ فى بعض الأحيان حدود جرائم القتل بالدم البارد كان ضحيتها العديد من المواطنين الشرفاء، ولا شك أن هذه الجرائم سواء منها السابق على الثورة أم اللاحق عليها لم تكن إلا بتدبير، أو أمر، أو علم، بعض الأيدى التى قضى ببراءتها أو بتواطؤ منها، إذ إن عقيدة المجتمع قد اتفقت على أن هذه الجرائم ما كانت لترتكب لولا أوامر صدرت من أكابر رؤسائهم الذين قدموا للمحاكمة وبرئوا منها، وبغض النظر عن مسئولية أى منهم على انفراد عن تنفيذ هذه الجرائم، فإن أحدهم أو بعضهم أو جميعهم هو من أصدر أو أصدروا الأمر بارتكاب هذه الجريمة، ومن هنا كانت الصدمة إذ جاء هذا الحكم مطهرا ــ على خلاف الحقيقة ــ لأيديهم من دماء المصريين.



ثانيا: أن المجتمع حبس أنفاسه إزاء أحكام البراءات التى صدرت فى الجرائم التى وقعت فى محيط الأقسام فى أثناء الثورة استنادا إلى قاعدة الدفاع الشرعى، ذلك أن ظاهر الحال يشهد بأن وقوع الجريمة فى محيط الأقسام من ضباط بداخلها يكشف عن أن الضباط كانوا فى أوضاع الدفاع الشرعى عن أقسامهم ما ينفى عن أفعالهم معنى الجريمة، إلا أن هذا الوضع كان يبرر من جانب آخر تهيئ المجتمع لمسئولية الضباط عن الجرائم التى ارتكبت بعيدا عن تلك الأقسام، على متظاهرين سلميين وأريقت فيها دماء بريئة، ولقد كان المجال الخصب لهذه المسئولية فى قضية العصر التى اتهم فيها رموز هذا النظام، ومن ثم فقد كانت خيبة الأمل بالغة عند القضاء ببراءة رموز وقر فى يقين المجتمع مسئوليتهم عن هذه الجرائم وتورطهم فيها من غير شك.



ثالثا: أن الفساد المالى والسياسى لم يكن ببعيد عن بعض من هذه الأسماء، فكانت تشهد ظواهر الحال أن البعض منهم كون ثروات طائلة من المال الذى تحوطه شبهة الكسب غير المشروع. وأن ذلك كان بمثابة مكافأة من النظام السابق على صنيعهم فى توطيد أركانه خصما من حقوق وحريات الأفراد.



رابعا: أن أحكام البراءة حملت رسالة مرعبة إلى المجتمع حاصلها، أن سياط السلطة الغاشمة مازالت رغم الثورة فى مأمن من العدالة، وهذا نذير سوء فى المقبل من الأحداث، فإذا كان فى وسع رجال الدولة القديمة أن يتواطأوا على إخفاء الأدلة فى جريمة العصر عن أعين ثورة وشعب بأكمله، فإذن ما ينتظر قابل الأمر مزيد من الجرائم بما يعنى استدامة عناصر الجريمة السياسية وقدرة رموز هذا النظام على طمس الحقائق ومواصلة سيرها نحو الاستبداد.



•هل عجز النظام القضائى المصرى عن تحقيق العدالة؟



ـ والحقيقة أن المنطق القضائى الذى يتبناه المجتمع لم يصمد بحججه التليدة أمام هذه الآلام، ولا أمام تشوف الشعب وتشوقه إلى روح العدالة وبعث الطمأنينة فى نفسه إزاء المستقبل.



فإذا كان القضاء ينطلق من مسلمة أن الأصل فى الإنسان البراءة، ولأن يخطئ القاضى فى العفو خيرا له من أن يخطئ فى العقاب، ولأن يبرأ ألف مجرم خير من أن يظلم واحد بجريرة لم يرتكبها، كل ذلك لم يشفع لدى الرأى العام فى تبرير قبول هذا الحكم. ذلك أن اللحظة كانت لحظة حسم لتصفية ميراث ثقيل من الظلم، واستشرف فيها المجتمع المصرى متنفسا له من ماضٍ مؤلم، طامحا لبدء صفحة جديدة من العدالة، فإذ به يصدم فى عجز النظام القضائى عن تحقيق العدالة.



لقد تعالت الأصوات مطالبة بمحاكمة استثنائية أمام محكمة ثورية تلبى طموحات الرأى العام، إلا أن هذه الدعوات هى الأخرى لم تلق قبولا بالنظر لما هو معلوم من أنها تكون على حساب العدالة، ومن ثم فهى وإن حققت الإدانة فإن ذلك سيكون على حساب الضمير العام إذ سيكون معلوما مقدما أن ذلك خصما من رصيد العدالة. وهو الأمر الذى كان دافعا لكاتب هذا المقال لأن يقف على رؤية قانونية تحقق عدالة المحاكمة ولا تفلت الجانى من العقاب.



المعالم الرئيسة للنظام الإجرائى المصرى



الحقيقة أن الأمر يقتضى الوقوف على المفردات الأساسية التى اعتنقتها المدرسة التى اتبعها النظام الإجرائى المصرى، ومعلوم للكافة أن النظام الإجرائى المصرى مأخوذ من النظام اللاتينى المتبع فى فرنسا وإيطاليا حتى فترة قريبة، ويقوم هذا النظام على العناصر الآتية:



أن الدولة هى الكيان المؤتمن على الدعوى العمومية، وأن أجهزتها بما فيها النيابة العامة هى التى تقبض على أدوات إقامة الدليل على الجريمة، وهى التى تستأثر بسلطة تحريك الدعوى الجنائية أمام القضاء، وأن القضاة المعينين من قبل الدولة هم من يستطيعون الفصل فى تقويم هذه الأدلة والقضاء بإدانة المتهم أو ببراءته، ثم تحديد العقوبة المناسبة للفعل فى ضوء ما ينتهى إليه قرار المحكمة. ويؤسس لهذا النظام فى الفكر الجنائى اللاتينى بأن الجريمة فى حقيقة الأمر لم تقع على المجنى عليه وحده وإنما وقعت على المجتمع بأثره، ومن ثم فهو الذى يحق له أن يمسك بناصية الدعوى الجنائية قبل المتهم ولو قعد المجنى عليه عن ذلك وأداته فى ذلك النيابة العامة.



وإذا كان هذا النظام قد عرف بعض الاستثناءات أقر فيها للمجنى عليه أن يباشر دورا فى تحريك الدعوى الجنائية فى ظل نظام الإدعاء المباشر، فإن هذا الدور ظل محددا، فاقتصر على سلطة تحريك الدعوى الجنائية فى بعض الجنح أو طلب التعويض من المحكمة الجنائية فى الجنايات، إلا أن هذا الاستثناء لم يكن يسلم له بأى قدر فى تحقيق الدعوى أو جمع الأدلة القائمة على الجريمة، ولا بأى دور اجتماعى لأفراد المجتمع فى تقرير الإدانة.



فى المعالم الرئيسية للنظام الأنجلوسكسونى



ويقابل هذا النظام، النظام الأنجلوسكسونى وهو السائد فى بريطانيا والولايات المتحدة، وهو نظام يقوم على أن الجريمة وإن كانت تمس من حق المجتمع فإنها فى حقيقة أمرها وقعت على المجنى عليه، وهو الطرف المضرور الرئيسى فيها، ومن ثم فإن له الحق الأكبر فى تحريك إجراءات الدعوى جنبا إلى جنب مع أجهزة الدولة، بل وتظهر حقيقة سلطته حال تقاعس أجهزة الدولة عن تحريك الدعوى فى مراحلها المختلفة.



ويخلص هذا النظام إلى النتائج الآتية:



1ــ حق المجنى عليه فى البحث عن أدلة الجريمة جنبا إلى جنب مع أجهزة الدولة، وهو لهذا له أن يستعين بشركات التحقيق الخاصة التى تتولى البحث عن الأدلة فى الجريمة لتباشر عملا قانونيا معترفا به ويمكن أن ينبنى عليه حكم الإدانة.



2ــ حق المجنى عليه فى تحريك الدعوى الجنائية استقلالا سواء أمام المحكمة فى القضايا البسيطة، أو أمام قاضى التحقيق فى الدعاوى الجسيمة.



3ــ علانية أعمال قضاة التحقيق «كأصل عام» أمام الجمهور بما يتيح للرأى العام مراقبتها، وأحيانا مساعدتها، بإمدادها بالأدلة اللازمة لإثبات الجريمة.



4 ــ الفصل بين قضاء الإدانة، وبين الحكم بالعقوبة، فيختص المحلفون، وهم من الشعب يختارون وفق ضوابط موضوعية، ولكن بطريقة عشوائية، فتتحدد الطوائف الاجتماعية التى يمثل منها المحلفون سواء من حيث السن أو الجنس أو المهنة، ثم يأتى الاختيار بعد ذلك عشوائيا من بين هذه الطوائف، وتختص هيئة المحلفين بالفصل فى مسألة الإدانة من عدمها، فتفصل فى صحة وقوع الجريمة ونسبتها إلى فاعلها ومسئوليته عنها، بينما تتولى المحكمة إذا ما قضى بالإدانة، القضاء بالعقوبة المناسبة، ويمكن أن يؤسس لفكرة اختيار المحلفين من أبناء الشعب أن تكون سلطة القضاء مصدرها الشعب، فهو الذى يقر فى يقينه ويقين أبنائه ما إذا كان الفعل المنسوب إلى المتهم ثابتا فى حقه من عدمه، وحتى لا يحقق الحكم أى صدمة اجتماعية نتيجة عدم توافقه مع توقعات الشعب، ولا شك أن عمل المحلفين، وعلانية جلسات التحقيق، وهى التى تهيئ إلى توقع الحكم توقعا صحيحا بحيث تكون أدلته قد اختمرت فى الضمير العام وتشكلت ردود الأفعال عليها من خلال التعاطى فى تقويم قوتها وما يقوم على مناقضتها ويضعف من أثرها فى الإثبات، كل ذلك من شانه أن يُكَوِّنَ رأيا عاما ناضجا يصلح لتلقى الحكم الذى يتنبأه المجتمع بحسب الأغلب الأعم، ليكون دور القاضى بعد ذلك محدودا فى تقويم المسائل القانونية كأسباب الإباحة وموانع المسئولية وغيرها، وتقدير العقوبة المناسبة للعمل الذى أثبته المحلفون على المتهم.



ولقد كان هذا النظام دوما فى مصر موضعا للعديد من سهام النقد، فيقال عنه إنه يوكل أمر الخصومة الجنائية إلى غير المتخصصين ممن يغلب تعرضهم للتأثير العاطفى وقوة الرأى العام على قراراتهم، ويعدد البعض أحوالا كان فيها قرار هيئة المحلفين قد خالف حقيقة الواقع متأثرا بالاعتبارات العاطفية والوقوع تحت حبائل الدفاع وضجيج التأثير الإعلامى فى المجتمع، وغير ذلك من أسباب تؤثر فى حيدة قرار هيئة المحلفين عن جادة الصواب، والحق أن ما يقال من نقائض هذا النظام يصدق وبذات الدرجة على النظام القضائى الذى تتبعه النظم الآخذة عن النظام اللاتينى، وقد يزيد عليها بعيب الانغلاق، إذ إن العزلة الدائمة التى تفرضها التقاليد القضائية على القضاة قد تؤدى إلى ابتعادهم عن نبض الحياة فى الوطن على نحو يحول دون تلبية الشعور العام للمجتمع بالعدالة، وهو ما ينال من الثقة العامة فى المجتمع والعدالة، ولعل هذا السبب هو الذى برر لنظام عتيد يعد من الركائز الأساسية للنظام اللاتينى، وهو النظام الإيطالى، لأن يتحول تحولا دراماتيكيا صوب النظام الأنجلوسكسونى عندما أصدر القانون رقم 447 بتاريخ 16 فبراير سنة 1988 متبنيا العناصر الأساسية للنظام الأنجلوسكسونى، معليا من حق المضرور فى الجريمة فى مشاركة مجتمعه فى البحث عن أدلتها، ومقرا له بحقه فى توجيه الخصومة جنبا إلى جنب مع أجهزة الدولة الرسمية، ومعليا كذلك من حق المجتمع فى المشاركة فى عملية المحاكمة الجنائية سواء بالمراقبة أثناء مرحلة التحقيق، أو المساهمة فى تقرير الإدانة من خلال نظام المحلفين، ثم إتاحة الفرصة أمام جهات التحقيق لأن تتفاوض مع بعض الجناة قصد الكشف عن أدلة أخرى ومجرمين آخرين فيما يعرف باتفاقيات الحماية القضائية، وقبول معاملة تفضيلية للجناة الذين يعترفون بجرائمهم.



مقترحات تطوير النظام القضائى المصرى



إذ كان الأمر كذلك، وكان البين للرأى العام فى هذه الفترة المفصلية الحرجة أن التقوقع حول مفردات النظام اللاتينى يعد خصما من مصداقية النظام القضائى الجنائى، فضلا عن انه يعد إلى حد بعيد عاجزا عن بلوغ غايات النظام الجنائى، ومن ثم فإننا نرى وجوبا إعادة النظر فى هذا النظام برمته لاختيار أوفق الحلول القانونية التى تحقق الرضا العام وتوثق مصداقية القضاء فى الوطن، إلا أننا نقترح على وجه العجل، وبصورة لا تحتمل الإرجاء إصدار تشريع لمحاكمات الثورة يتبنى مفردات النظام الأنجلوسكسونى، ويكون قوام ذلك العناصر الآتية:



1ــ إنشاء نظام قضاة التحقيق وفقا لأسس التحقيق العلنية التى يتاح فيها للجمهور المشاهدة الحية لأعمال التحقيق، ومتابعة إجراءاتها منذ باكورة أعمالهم.



2ــ السماح للجمهور بالمشاركة بتقديم ما لديهم من أدلة، سواء أكانت شهادات أو مقاطع تصويرية، أو أعمال خبرة، أو غيرها مما يساهم فى تضامن أبناء المجتمع فى حشد الأدلة على الاتهام، ويمكن تنظيما لذلك أن تكون هذه المساهمات بناء على طلبات تقدم إلى قضاة التحقيق العلنى تسجل فى دفاتر معدة لذلك، ويكون رفض سماع الدليل أو الحرمان من طرحه مقرونا بقرار مسبب يبين فيه القاضى عند تصرفه فى الدعوى سواء بالإحالة أو الحفظ سبب رفض سماع هذا الدليل.



3ــ تمكين قضاة التحقيق العلنى من إجراء مفاوضات سرية مع بعض المتهمين يدلى بمقتضاها المتهم باعترافات عن متهمين آخرين ويكون من شأنها كشف أدلة لم تكن معلومة من قبل سواء تعلقت بجرائم أخرى، أو بذات الجريمة، ويكون ذلك لقاء اتفاق ملزم من المعترف يخوله الحماية القضائية من مسئوليته عن الجريمة التى ارتكبها واعترف بها.



4ــ تخويل المتهم المعترف بجريمته معاملة عقابية أخف من المتهم المنكر، ويكون لقاضى التحقيق العلنى الحق فى إبرام تعاقد معه يحدد مقدار هذه المعاملة العقابية الأخف منظورا فى هذا الاتفاق مقدار خفاء المعلومات التى اعترف بها المتهم عن أجهزة التحقيق.



5ــ أن يكون لقاضى التحقيق العلنى أن يصدر أمرا إما بحفظ الدعوى (وهو ما يعرف قانونا بألا وجه لإقامة الدعوى)، وإما بإحالتها إلى هيئة المحلفين، ويحدد لها الواقعة القانونية التى تدعى إلى الفصل فيها.



6ــ تتشكل هيئة المحلفين ــ فى جرائم الثورة ــ من عدد فردى نرى أن رقم (19) يكون أوفق لما له من اتساع عددى يسمح بتضمينها عددا كبيرا من المحلفين يكون أقرب للتعبير عن الرأى العام، وإذا كان نظام المحلفين بحسب الأصل يكون من كل أبناء الشعب دون تمييز، فيحسن فى هذه التجربة الوليدة أن يقتصر تشكيلها على الجامعيين من تخصصات مختلفة تتسع لتشمل رجال القانون والطب والهندسة والجيش والشرطة والزراعة ورجال الصناعة والرأسماليين وغيرهم، ولا بأس بأن يكون اختيارهم فى أول الأمر انتقائيا من عناصر مشهود لها بالحيدة. وتختص هيئة المحلفين إما بتقرير إدانة المتهم من حيث المبدأ أو براءته، فإذا قررت إدانته فإنها تحيل الدعوى إلى قاضى الحكم الذى يتولى الفصل فى مسألة وجود سبب إباحة أو مانع مسئولية ثم يتولى تقدير العقوبة فى ضوء العناصر العامة لذلك.


فإذا أثبت هذا النظام نجاحه فى هذه التجربة المحدودة، فإن ذلك يصلح لأن يكون سندا لتعديل شامل لقانون الإجراءات الجنائية، بما يحقق أهداف النظام الجنائى فى العدالة الناجزة.

والله الموفق والمستعان..

http://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=13102012&id=6b33f865-e50d-47d6-b239-ad4b84371dec

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق