انتهت مباراة الحسم بين مصر والجزائر بفوز الأخيرة رسميا بهدف للا شىء. لو كانت الأمور جرت فى سياقها الطبيعى، باعتبارها مباراة فى كرة القدم بين فريقين متنافسين فى تصفيات كأس العالم، لكان رد فعلنا على نتيجة المباراة طبيعيا بدوره، ولتقبلناها بروح رياضية قائلين: مبروك للفريق الجزائرى و«هارد لك» للفريق المصرى، الذى كان الأفضل فنيا والأجدر بالفوز لولا سوء الحظ وعدم التوفيق.
غير أن أحداث الأسبوع الماضى لم تكن لها صلة بالرياضة، وإنما كانت فى حقيقة أمرها معركة بين نظامين سياسيين مستبدين وفاسدين لم يترددا فى استخدام أبشع االوسائل والأساليب وأشدها خسة ونذالة للزج بشعبيهما فى معركة كراهية، لن يخرج أحد منها مرفوع الرأس أبدا ولن ينجم عنها سوى العار والخراب الذى طال الجميع.
غير أنه قد لا يكون من الإنصاف اعتبار الحكام فى البلدين مسؤولين وحدهما عما حدث وإعفاء الشعبين المصرى والجزائرى من المسؤولية بعد أن استسلما هكذا كالقطيع، وسمحا لنظاميهما الحاكمين بالتلاعب بمشاعرهما الوطنية النبيلة، وتسخيرها على هذا النحو فى معارك صغيرة لخدمة أغراض دنيئة ومشبوهة.
فقد كشفت أحداث الشغب التى شهدتها القاهرة والجزائر والخرطوم، وعواصم أوروبية أيضا، عن شيوع حالة عامة من الجهل والتخلف والتعصب والانحطاط تثير الخجل. ومن مصادفات القدر أن تقع هذه الأحداث فى الوقت نفسه الذى نشرت فيه منظمة الشفافية العالمية تقريرها السنوى، الذى جاء فيه أن الجزائر ومصر بلدان يتعادلان فى الفساد، ويحتلان معا مرتبة شديدة التدنى على مقياس مكافحة الفساد فى العالم!
ولأن ما جرى يعد فى تقديرى أمرا شديد الخطورة ويمس مستقبل المنطقة ومصيرها، فمن الضرورى أن يتعامل معه الجميع، حكاما ومحكومين، بالجدية التى تليق بجسامته. فلست أبدا مع وجهة النظر التى تقول إن ما جرى هو مجرد «تجاوز غير مقبول وقع خلال احتكاكات تتكرر كثيرا بين جماهير كروية، من الطبيعى أن تتعصب لفرقها فى مباراة حساسة»، وإنما أنظر إلى ما حدث باعتباره جريمة كبرى شارك فى ارتكابها كل الأطراف فى البلدين: الحكومات والنخب ووسائل الإعلام بل والشعوب نفسها.
فحين تفجر مباراة فى كرة القدم كل هذا القدر من الغضب والكراهية بين شعبين شقيقين ويصل الأمر إلى حد إحراق العلم فى البلدين والاعتداء على مواطنين أبرياء ومحاصرتهم فى بيوتهم وتدمير المكاتب والشركات، فلا بد أن ندرك أن الصدور كانت معبأة لأسباب أخرى، وأن المباراة لم تكن سوى الزناد الذى ضغط على الشحنة المتفجرة المعدة سلفا للإطلاق.
ولأن هذه الجريمة الكبرى ارتكبت فى وضح النهار وجرت معظم وقائعها على الهواء مباشرة، فقد كان من السهل ضبط جميع الأطراف المشاركة فيها وهم فى حالة تلبس فاضح!..
وما لم ينجح الشعبان فى ممارسة الضغط من أجل إجراء تحقيق شفاف ونزيه يزيح النقاب عن كل الملابسات ويحيل كل المتسببن، أيا كانت مراكزهم أو مواقعهم، إلى محاكمة عادلة، فسوف يصعب تماما احتواء آثار ما جرى، وسيتحول إلى كرة ثلج متدحرجة تزداد خطورة مع تزايد قوة اندفاع الحركة فى اتجاه السفح! وإلى أن يتم التحقيق، أتطوع بتقديم رؤيتى لما جرى على النحو التالى:
١- نظامان سياسيان مستبدان وفاسدان، لم تعد لأى منهما قضية وطنية أو قومية كبرى، يسعيان باستماتة - كلٌ لأسبابه الخاصة - لاستعادة شعبيتهما باستثمار لحظة توحد وطنى حول فريقيهما الكرويين.
٢- شعبان عظيمان يبحثان عن لحظة فرح بانتصار، فى ظل حالة عامة من الإحباط الوطنى والقومى عمّ فيها الفساد وشاع الاستبداد، فلا يجدان سوى تلك المناسبة الكروية الحساسة للتعبير عن مشاعرهما الوطنية المكبوتة وإحباطاتهما المزمنة.
٣- نخب حاكمة فى البلدين تسلم قيادتها فى تلك اللحظة بالغة الحساسية، وفى ظل حالة فراغ وعقم تتسم بها الحياة السياسية فى البلدين، إلى إعلام رياضى جاهل ومتعصب، ينجح بامتياز فى تحويل مباراة فى كرة القدم إلى معركة كبرى من خلال استثارة أحقر المشاعر والغرائز الشوفينية.
أدرك أن الكتابة فى موضوع على هذه الدرجة من الحساسية، فى وقت لاتزال فيه الأعصاب مشدودة والمشاعر ملتهبة والغضب يمسك بتلابيب الجميع، خصوصا إذا كانت فى عكس اتجاه التيار السائد - تبدو نوعا من الجنون.
ومع ذلك فإننى لا أتردد مطلقا فى القول بأن اللوم فى البداية يقع على عاتق نظام مصرى متهرئ لم يستطع أن يدرك حساسية اللحظة والموقف، وأن يتعامل معها بما كان ينبغى. فحين تذهب عملية الشحن المعنوى للجمهور المصرى إلى حد قيام محطة فضائية بالكتابة على شريط أخبارها المتحرك عبارة تقول «فليتحول استاد القاهرة إلى مقبرة للغزاة» كان يتعين على المسؤولين السياسيين أن يخرجوا بطاقتهم الحمراء على الفور.
وحين تقوم قلة من المتعصبين أو المدسوسين بإلقاء الحجارة على حافلة تقل الفريق الجزائرى فى القاهرة كان يتعين على أجهزة الأمن المصرية أن تصدر على الفور بيانا بما حدث وتلقى القبض على العابثين.. لكنها بدلا من ذلك ارتكبت خطأ أكبر حين تركت البعض يصرح بأن الحادث مفتعل، وأن الحجارة ألقيت بطريقة متعمدة من داخل الحافلة، مما أثار شبهة التواطؤ الرسمى مع جمهور يعيش حالة تعبئة عامة وكأنه فى موقعة عسكرية.
غير أن الأخطاء التى ارتكبت فى مصر، على جسامتها، لا تبرر مطلقا رد فعل الجمهور الجزائرى الذى تم شحنه هو الآخر بطريقة غير طبيعية. ولا أريد أن أقدم هنا شهادة مصرية، ربما تكون مجروحة، ولكن شهادة عربية من كاتبة لبنانية صديقة معروفة بمواقفها القومية الناقدة للنظام المصرى، كانت فى باريس عقب المباراة الأولى التى فازت فيها مصر، وكتبت بعدها تقول بالنص:
«يا أمة ضحكت من جهلها الأمم. بل يا أمة عبست من جهلها الأمم!. ذاك هو التعليق الذى تملكنى وأنا أحتجز مع ثلاثة أصدقاء فى سيارة أحدنا طوال ساعتين فى شارع الشانزليزيه مساء السبت. أفواج مؤللة من الشباب المجنون وأفواج مؤللة من الشرطة الفرنسية، فى تظاهرة لم أشهدها والله فى أى مرة دعونا فيها إلى التجمع لأجل فلسطين!.
أن نرى علم الجزائر يلف السيارات وأجساد الشباب ورؤوسهم لشىء جميل يفرح له القلب، وأن نرى وبنفس القدر تقريبا أعلاما تونسية تلف الشباب الصارخ المصفر الملوح من فوق السيارات، فذاك لم نفهم سببه – صراحة – طالما أن الأمر يخص مباراة الجزائر ومصر. تضامن مغاربى؟ لا بأس فليكن خيرا، على الأقل بين مواطنى بلدين طالما أننا لم نعد نجده فى حده الأدنى بين بلدين عربيين.
ولكن أن نرى علم مصر يُحرق، ويُمزق ويُداس على الأرض، فذاك آخر الجنون الذى لن يغضب له بأى حال مئات رجال الشرطة الفرنسيين الذين كانوا يصطفون على جانبى الشارع، تنطق نظراتهم بكل ما فى الأرض من احتقار وامتعاض. رجال الشرطة مستاؤون دون شك لسبب شخصى، فالساعة قد بلغت الثانية بعد منتصف الليل والشارع لايزال يعج بالجنون مما يضطرهم إلى البقاء وقوفا فى هذا الليل البارد، لكنهم أيضا مستاؤون من المنظر الذى أقل ما يقال فيه، أنه غير حضارى بأى مقياس من المقاييس.
ونحن، الذين أمضينا سهرة السبت فى نقاش حول مستقبل العرب.. حول زيارة بشار الأسد.. حول مستقبل حركات المقاومة فى لبنان وفلسطين والعراق.. حول الأمسية التى عدنا لتونا منها فى اليونسكو وكانت مخصصة لذكرى الإمام موسى الصدر تحت عنوان: «موسى الصدر رجل الحوار» بين الأديان والحضارات، نجدنا الآن نتسمر فى سيارتنا، موزعين بين اللعنات والألم، بين الشتم والدمعة.
هل نحن عرب؟ هل نريد أن نكون عربا؟ وإذا كان لا خيار فى الجواب، فهل هؤلاء أبناؤنا؟ هل هؤلاء منا؟ هل نريد أن نكون منهم؟ هم أولاد العرب المهاجرين! حسنا. هم بذلك يحملون عقدة نفسية مركبة يفجرونها عبر هذا الجنون: عقدة العربى الذى يعيش الهزيمة أمام أعدائه – فيفش خلقه – فى شقيقه، كما حال الرجل الفاشل أو الخاسر الذى يعود إلى البيت فيضرب زوجته.
وتضاف إليها هنا عقدة هذا الشباب المهاجر الضائع الذى اقتلع من سياقه، ولم يعرف كيف ينغرس فى السياق الآخر وظل يتعامل مع الغرب ويتعامل معه الغرب بمركب التعالى والنقص، الكراهية والانتقام، العجز وفشة الخُلق مرة أخرى، دون أن يشكل أى عامل من ذلك هذا الجنون.
أى مأساة أن تسجل كاميرات الصحفيين الموجودين صورة عرب يحرقون ويدوسون علما عربيا، لا علم إسرائيل ولا علم أى عدو آخر! أما موضوع الخلاف، القنبلة النووية التى فجرت كل هذا الجنون وهذا الحقد، فلن يصدق عاقل أنها مباراة كرة قدم بل سيقول العقلاء إنها النتيجة الطبيعية التى نصل إليها عندما نجعل عقول الأجيال الجديدة فى أقدامها بدلا من رؤوسها».
ماذا كان بوسع هذه الكاتبة المحترمة أن تقول بعد ما جرى عقب مباراة الحسم فى شوارع الخرطوم ثم فى شوارع القاهرة، وحالة الهستيريا الشوفينية الخطرة التى اتسم بها رد فعل الشارع المصرى على ما ارتكب من جرائم؟!
لا جدال فى أننا أمام حالة مرض جماعى للأمة ينذر بموت سريرى قريب. فهل من منقذ؟ وإلى أين تقودنا أنظمة تحالف الفساد والاستبداد هذه فى كل أرجاء العالم العربى؟ كنا نخشى من تمدد الصراع الطائفى فى العالم العربى فإذا بهم يعاجلوننا بلطمة جديدة تبدو قاضية حيث الشعوب العربية تتفنن فى تحويل المباريات الكروية إلى ساحة حروب بينها. هل هذه دلائل على اقتراب الساعة؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق