حاولت إحدى السيدات المغربيات أن تُخفف لوعة زوجها المصرى فى أعقاب مُباراة مصر والجزائر، وما صاحبها من مشاهد عُنف قبيحة، بأن هناك «حدة مزاج جزائرية» معروفة لكل جيرانهم، تجعل هؤلاء الجيران يحمدون الله أنه لم تصبهم «القُرعة» للعب مع الجزائر فى أى مُباريات أفريقية، أو عربية، أو متوسطية، أو دولية، وذكرت الزوجة المغربية لزوجها المصرى المُناسبة التى كانت منذ عدة سنوات، حيث شاء حظ المغرب أن تواجه الجزائر فى مُباراة لكُرة القدم.
فما كان من غُلاة الجزائريين إلا تجميع أكبر عدد من الحمير، وألبسوها أعلاماً مغربية، وطافوا بها فى شوارع مُدنهم الرئيسية قُبيل، وأثناء، وبعد المُباراة!
ومع نشر هذا المقال فى عدة صُحف عربية منها (المصرى اليوم القاهرية، والخبر الجزائرية، والمساء المغربية، الراية القطرية) وغيرها من الصُحف اليوم، سيكون قد قيل حول تلك المُباراة وذيولها القبيحة، ما لم يقله مالك فى الخمر، أو نزار قبانى فى هزيمة العرب المُدوية عام ١٩٦٧.
ولعل من أصوب ما قرأت فى الأيام الأولى بعد واقعة أم درمان (حيث كانت مُباراة مصر والجزائر) مقالاً جامعاً للدكتور عبدالمنعم سعيد، بعنوان «لم تكن مُباراة فى كُرة القدم؟!» (الأهرام ٢١/١١/٢٠٠٩)، وآخر للدكتور حسن نافعة، بعنوان «حالة تلبس» (المصرى اليوم ٢٢/١١/٢٠٠٩) قدم فيه تحليلاً أميناً لمسؤولية حكومة البلدين وإعلامهما عن الشحن النفسى، والتحريض السلوكى اللذين كانا لا بد أن يؤديا إلى ما أديا إليه من عواقب وخيمة، ربما ستستمر تداعياتها لسنوات بين الشعبين المصرى والجزائرى، ناهيكم عما لحق بمفهوم «العروبة» من إساءة.
وكان فى المقالين المذكورين أعلاه، ما يكفى، دون حاجة منى لمزيد. ولكن رجل الأعمال المصرى المعروف رامى لكّح، ألح علیّ فى مُكالمة تليفونية، من لندن، فى أن أدلى بدلوى فى الموضوع، وكان مُنفعلاً أشد الانفعال بما تعرض له المصريون من مهانة، ولفت نظرى أن رامى لكّح، فى هذه اللحظات نسى تماماً مُشكلاته مع الحكومة المصرية، واستبدت به الغيرة «للكرامة المصرية»!
وبعيداً عن انفعالات رامى لكّح، وتأملات عبدالمنعم سعيد، وتحليلات حسن نافعة، وحمير المغربية سعيدة سعيد، شغلنى كيف أن دولاً عربية ثلاثًا ظهرت بمظهر تعيس قُبيل، وأثناء وبُعيد المُباراة. فهناك الدولتان اللتان لعب فريقاهما، من أجل التأهل عن القارة الأفريقية لنهائيات كأس العالم (المونديال)، عام ٢٠١٠، بجنوب أفريقيا، وهما الجزائر ومصر، أما الدولة الثالثة، فهى تلك التى لعب الفريقان على أرضها، وهى السودان، والتى كان مفروضاً أن تكون مُحايدة وصارمة فى حفظ الأمن والنظام.
وحسناً فعلت صحيفة «المصرى اليوم»، فى اليوم التالى للمُباراة، حيث أعلنت مع أخبار ونتيجة المُباراة نفسها، التى فازت فيها الجزائر على مصر بهدف واحد، وتعادل البلدان فى درجة «الفساد». نعم «الفساد». فهناك مُنظمة دولية مُتخصصة فى رصد ظاهرة الفساد، طبقاً لمنهجية صارمة، ثم تقوم بترتيب دول العالم، تصاعدياً- من أقلها فساداً إلى أكثرها فساداً.
وتُسمى تلك المؤسسة المُتخصصة «مُنظمة الشفافية الدولية» (Transparency International)، ومقرها ألمانيا. وهى تصدر تقاريرها سنوياً فى مُنتصف نوفمبر من كل عام. وقد تزامن صدور تقريرها هذا العام فى يوم مُباراة مصر والجزائر نفسه، وتشاء الصدفة وحدها أن تأتى مصر والجزائر مُتعادلتين فى درجة الفساد.
فقد تقاسمتا المركز ١١١، بين المائة والثمانين دولة، التى شملها تقرير مُنظمة الشفافية الدولية. كما جاءت الدولة المُضيفة، وهى السودان، فى المركز ١٧٦، أى قبل الأخير بأربعة مراكز فقط. أما الأخير بين الدول (أى الأكثر فساداً) فقد كان دولة عربية أيضاً، وهى الصومال (١٨٠).
ويُسمى عُلماء الاجتماع السياسى مثل هذه الدول «الفاشلة» (Failed state). ويتجلى فشل هذه الدول لا فقط فى فساد كبار مسؤوليها، ولكن أيضاً فيمن دونهم فى المستويات الوسطى والدنيا من الموظفين، حيث تصبح «الرشوة»، و«المحسوبية»، و«الواسطة» هى طريقة حياة، ووسيلة إنجاز مُعظم مُعاملات مواطنيها.
كذلك من أعراض الدولة الفاشلة، عدم قدرتها على حفظ الأمن والنظام لأبناء مُجتمعها، حيث يُختزل أمن المجتمع فى أمن النظام الحاكم- أى سلامة وحماية كبار المسؤولين وذويهم. وقد تجلى ذلك فى تلك الساعة الحرجة التى أعقبت مُباراة مصر والجزائر فى العاصمة السودانية، فقد فشلت أجهزة الأمن السودانية فى حفظ النظام فى استاد أم درمان، والمنطقة المُحيطة به، وهو ما عرّض مئات المُشجعين والمُتفرجين لخطر اعتداءات البلطجية والغُلاة.
ولكن هذه الأجهزة لم تفشل فى تأمين وخروج كبار المسؤولين وأبنائهم من ذلك الاستاد، وهروبهم من الساحة، وإلى مطار الخرطوم، حتى ركبوا طائراتهم الخاصة، عائدين إلى أوطانهم. وكان الاستثناء الوحيد هو لأحد ابنى الرئيس، وهو علاء مُبارك، الذى أصرّ على ألا يُغادر أرض المعركة إلا بعد أو مع أفراد الفريق!!
وهكذا، كانت مُباراة كروية واحدة كاشفة عن عورات ثلاثة أنظمة عربية حاكمة، وبلا شرعية، قام اثنان منها بشحن الرأى العام فى بلديهما لتوقع «الانتصار» فقط، فى مُسابقة رياضية هى بطبيعتها، كأى مُسابقة، لا بد فيها من احتمال الخسارة أو الهزيمة.
واستخدم الإعلام الموجه فى البلدين كل وسائل الشحن المشروعة وغير المشروعة، من ذلك استدعاء أحدهما لأسطورة «المليون شهيد» والتى أصبحت مع يوم المُباراة «مليون ونصف شهيد»، واستدعى الطرف الآخر أسطورة «السبعة آلاف سنة حضارة»، والتى أصبحت مع يوم المُباراة «ثمانية آلاف سنة»، وهكذا تبارى إعلام البلدين فى المُبالغات.. من ذلك أن مصر «الشقيقة الكُبرى» تعرضت لعدوان ثلاثى عام ١٩٥٦- من فرسنا وبريطانيا وإسرائيل- بسبب دعمها لثورة تحرير الجزائر ضد فرنسا، ومنها أن لواء جزائرياً شارك فى دعم مصر وسوريا فى حرب أكتوبر ١٩٧٣، حيث اختلطت دماء الجزائريين مع أشقائهم المصريين والسوريين.
وهكذا تحولت مظاهر «التضامن» بين الشعبين المصرى والجزائرى فى حياة جيل سابق، هو الذى كان قد أعطى عن طيب خاطر، إلى مظاهر للفرقة على أيدى جيل لاحق لم يُعط، ولا يعرف إلا تفاخر الجاهلية الأولى. إن «الرياضة» مثل «الديمقراطية» هى مُنافسة من أجل الجدارة، طبقاً لقواعد معلومة، يحترمها المُتنافسون. وليس النصر أبدياً فى الديمقراطية، ولا الهزيمة أبدية فى الرياضة.
فكلتهما تخضع، أو من المفروض أن تخضع، لمُنازلات دورية (سنوية أو رباعية أو خماسية). ولذلك فمن لم ينتصر هذه المرة، تكون لديه فرصة أو فرص أخرى فى المُستقبل. فنتيجة أى مُنافسة ليست ولن تكون نهاية المطاف أو إحدى «علامات الساعة» (أى الآخرة، يوم القيامة).
إن الخاسرين فى مُباراة مصر والجزائر (١٨/١١/٢٠٠٩) الشعبان، المصرى والجزائرى، وقضية الوحدة العربية. فمشهد الاعتداءات، والدماء التى سالت فى استاد أم درمان، ربما يتضاءل بالنسبة لما تعرض له أبناء الشعبين على أيدى الاستعمار أو أطراف أجنبية أخرى، ولكنه لم يكن على أيد الأشقاء، ولم يكن مُسجلاً بالصوت والصورة، مثلما فى أم درمان والخرطوم، وفى صُحف القاهرة والجزائر، وعلى شاشات التليفزيون التى رآها الملايين.
لذلك لم يكن غريباً أن كثيراً من الأصوات المصرية، خرجت من معاقلها مُنكرة، بل ساخرة، من «العروبة»، ومُطالبة بإسقاط «عربية» من الاسم الرسمى لبلدهم (وهو جمهورية مصر العربية). وطاف بخاطرى وأنا أقرأ هذه الدعوات، أحلام ونضالات أربعة أجيال عربية، طوال القرن العشرين، من أجل «العروبة» كأمة واحدة، ذات رسالة خالدة!.
نعم طاف بخاطرى أسماء شريف حسين وميشيل عفلق وقسطنطين زريق وجمال عبدالناصر وشكرى القوتلى، كما طاف بخاطرى جهود بقايا آخر هذه الأجيال، من العراقى خير الدين حسيب، إلى المصرى محمد حسنين هيكل، إلى الجزائرى الأخضر الإبراهيمى، ولم أملك إلا أن أزفر مثلما زفر ابن أبى عبدالله، وهو يُغادر آخر القلاع العربية فى الأندلس (١٤٩٢)، ولكن العزاء لحسيب وهيكل والإبراهيمى، هو أن الزفرات ربما تنتهى وتموت مع أصحابها، ولكن الأحلام لا تنتهى ولا تموت...
وكما حدث مع أحلام أجيال أوروبية، تحققت وحدتها، رغم ماضيها من العداوة والاقتتال، فربما ستأتى أجيال لا يصرفها اعتزازها بوطنيتها عن مصيرها القومى المُشترك، الذى صاغته الجغرافيا والتاريخ واللغة.
والله أعلم